ضرورة وليست موضة!

الخميس - 16 مارس 2017

Thu - 16 Mar 2017

يفتح المعرض الدولي للكتاب في الرياض أبوابه هذه الأيام لمحبي القراءة والعلم والثقافة لكي ينهلوا من معينه «العذب» وتذهب أعينهم يمنة ويسرة بين هذا الكتاب وذاك، ما بين لهفة ودهشة وإعجاب، وتغوص أيديهم في أعماق الدور المنتظمة في محيط المعرض ليلتقطوا اللآلئ والدر المنثور من الكنوز المعرفية والأسفار «الحقيقية» التي أفنى فيها مؤلفوها جل أوقاتهم وقدموا فيها عصارة فكرهم في قالب يحترم عقل القارئ، بعيدا عن الغثاء الجارف الذي تحمله بعض الأوراق المسماة مجازا بــ «كتاب» وما أكثرها وأشد بريقها في زمن ثقافة «الأكثر مبيعا» الخادعة!

والحديث عن الكتب والقراءة ليس ترفا أو ترديدا كالببغاء لمقولات تمجد القارئين والملحقين في سماوات الكتب دون وعي بأثر القراءة «الجادة» وليست القراءة «الهامشية» أو موضة «عصرية» فرضتها مواقع التواصل الاجتماعي من خلال «التصوير» الذي لا تتعدى همة صاحبه غلاف الكتاب وبجانبه «كوب القهوة السوداء» البارد بسبب تعدد زوايا التصوير! أو بضع اقتباسات شاردة ضائعة في حسابات «الانستقرام» لا يعرف واضعها من أين أخذها؟ ولمن هي؟ أو وجاهة وتباه وتجميع للكم من الكتب في غرفة ذات أرفف متعددة يعلوها الغبار وتكاد تنسى صاحبها الذي بالكاد يلقي عليها نظرة خاطفة بين الفينة والأخرى! لا.. لا.. ولا شك أنكم تتفقون معي أن القراءة أعمق وأجل بكثير من هذا العبث المنتشر هذه الأيام انتشار النار في الهشيم! وأقول هذا الكلام بداية لنفسي التي أحسب أنها لا تخرج من أحد الأصناف الآنف ذكرها!

أذكر أني في المرحلة الثانوية عام 1425 «في ذلك الزمن البسيط التي تمسك فيه بكتابك وتقرأ بنهم دون أن تشتت وقتك مواقع التواصل الاجتماعي وصروف الحياة المتعددة كما هو الحال اليوم!» دار في ذهني السؤال التالي: لماذا يقرأ الإنسان؟ نعم.. لماذا يقرأ الإنسان؟ ما الفائدة التي يجنيها حين يغلق على نفسه الباب ويتناول بيديه أحد الكتب الجميلة وتتسمر عيناه على صفحاته ويظل يقرأ ويقرأ؟ هل يمارس نوعا من المتعة فقط؟ أم إنه يقوم بذلك تقليدا لأحدهم؟ أم ليقال عنه قارئ؟ أم ليشغل وقته لمجرد الإشغال فقط؟ أم ليمارس نوعا من العبث والتجربة؟ وجهت هذا السؤال لأحد معلمي الفضلاء، فأطرق هنيهة ثم رد علي السؤال بسؤال آخر قائلا: لماذا يأكل ويشرب الإنسان؟ فكانت الإجابة بدهية مني: لكي يعيش الجسد! فقال أستاذي على الفور: ويقرأ الإنسان لكي يعيش العقل!

نعم.. لكي يعيش العقل بغذاء القراءة والبحث والمطالعة ولأن القراءة هي مادة حياة العقل وسبيل نشاطه وديمومته، ولكي ينفض الإنسان عن نفسه غبار الجهل والخواء العقلي المرير الذي يعيش في أكنافه فئام من الناس، ولكي يضيف لحياته حيوات من الخبرة والدراية والحكمة، ولكي يعمر أوقاته بعصارة التجارب «المضنية» التي بذل أصحابها الغالي والنفيس وقدموها «كخلاصة» للعمر الطويل، ولكي يتنقل بين أزمنة متعددة وعصور مختلفة ويعيش حياة غير حياته وزمانا غير زمانه عبر قلب لصفحة أو نقرة لزر أو أخذ لكتاب من الرف وهو جالس على أريكته مستمتعا في بيته دون عناء السفر ومشقة التجوال! إنك حين تقلب طرفك في الكتاب فأنت تجالس «كائنات من ورق» تجد فيها سلوتك وحزنك، فرحك وغضبك، ألمك وأملك، صبرك وفرجك، بسمتك ودمعتك، تجد فيها ذاك «الصديق الورقي» الذي لا يخونك ولا يكذبك ولا يكدرك ولا يضيق صدرك به، بل يرفع من شأن نفسك ويرتقي بها في مراتب الكمال والسمو، ونعم الصديق الوفي هو!

أيها القارئ العزيز: إن القراءة ليست ترفا ولا متعة ولا هواية فحسب، وإنما ضرورة ملحة لبقاء الإنسان والمجتمع والأمة في دائرة التأثير وصنع الوعي وردم فوهات الجهل والتبعية للغير وبناء جيل يملك عقلا واعيا عارفا بما يجري حوله ويمتلك حسا نقديا لا يقبل الاستسلام والموافقة لكل ما يمر به من الأفكار والأحداث والقضايا التي يعج بها زماننا اليوم!

وأخيرا أيها القارئ الحصيف، فإن مسحة الخجل تعلو صفحة وجهي لأني أحدثك في موضوع أبعد ما أكون عنه للأسف، ولعلنا جميعا نعيد للقراءة مكانتها المرموقة في بناء الإنسان والمجتمع والأمة، ونستنهض الهمم في أن نجعل القراءة عادة حسنة في حياتنا اليومية!

(ومضة):

نزل الملك العظيم جبريل، عليه السلام، بوحي من رب الأرباب تعالى، إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، صلوات ربي وسلامه عليه، ليلقي عليه الكلمة الأولى التي أقامت أعظم حضارة عرفتها البشرية: اقرأ!