محمد أحمد بابا

الإيجار المنتهي بالتوحش

الثلاثاء - 10 يناير 2017

Tue - 10 Jan 2017

الباحثون عن شقق للإيجار يخرجون عصرا من منازلهم المستأجرة محرومين من قيلولة بعد دوام ممل يبحثون عن سكن بديل يستأجرونه، وهم ينظرون بأعينهم إلى الأعلى بحثا عن مبنى تكون مداخل أجهزة التكييف فيه فارغة دلالة على شقة غير مسكونة، ويبادرون بسؤال عامل البقالة أو حارس العمارة أو المارة أملا أن يدلهم أحد على طريقة يقتحمون فيها قلب صاحبها قبل صالتها ويدعون ربهم أن يسكن ربي المتوحشين في مساكنهم.



جاء التكييف المركزي ليقضي على مهارة البحث البصري المجهد ويشجع المكاتب العقارية فتكون هي الملجأ الوحيد لهؤلاء رغم ما تتقاضاه من رسوم عالية ونسب مبالغ فيها من الضعفاء وذوي الدخل غير الموجود.



فمن الطبيعي إذن أن تغطي لوحات الإعلان عن شقق للإيجار دعايات المواد الاستهلاكية ولافتات المرور الإرشادية، وتكون الصفحات التي تدعو المساكين لبذل ما في جيوبهم للإيجار المنتهي بالتوحش أكثر من الصفحات التي تعنى بأخبار المجتمع أو توعيته أو ثقافته، ومن فاته الاطلاع على شقق للإيجار يمكنه الولوج من نوافذ التقنية الالكترونية ليطلع على محيط لا سقف له، يبتلع أخضر الرواتب ويابس الجمعيات.



فاحتدام المنافسة للتغرير بالمستأجرين وتوريطهم طمعا في - الدلالة - جعل ربات البيوت العاطلات مثل: أم أحمد وصالحة ابنة فاضل وأم اليزيد والخالة تسنيم وزوجة البواب وإحدى بنات المحاسب وجارة راعي المازدا وغيرهن كثير لا ينمن بعد صلاة العصر أملا في سمسرة هاتفية نحو غنيمة من امرأة المدير أو أخت الكفيل أو كنة الكوافيرة، في إقناع نسائي يساوي مائة مكتب عقار.



وعلى «ماصات» مكاتب العقار التي هي أكثر من «الهم على القلب» لا شيء يختلط مع غبارها الذي لم يمسح منذ افتتاح المكتب ـ بعد هدم جدار إحدى الغرف لتصبح «دكانا» من صاحب العمارة الذي يعمل مدرسا للرياضيات منذ عشرين سنة في مدرسة ابتدائية بحي شعبي بعيد ـ سوى استلام العقد المطبوع في مطبعة تجارية لا يعرف كل من فيها اللغة العربية وإنما هو «رزق الهبل على المجانين» وتسليم نسبة المكتب قبل «العربون» غير المسترد، فاللوحة الموجودة فوق رأس «الدلال» تقول: البضاعة التي تباع لا تسترد، وكأنك في إحدى بقالات شارع المنصور بمكة أو شارع الإسكان بجدة.



وأصحاب الملك صنوف وعذابات، فمنهم من يسألك عن عدد الأولاد ولون سيارتك وكم خادمة لديك وهل لك أقارب في نفس الحي وهل والدتك أرملة أم إنك مقطوع من شجرة وكيف هو تعاملك مع الضيوف والمصعد وصنبور المياه، وآخر يشترط عدم تركيب سخانات مياه أو لصق ورق الجدران وعدم الاستيقاظ قبل الساعة التاسعة صباحا أو استخدام المصعد بعد العاشرة ليلا وعدم ترك الباب مفتوحا وإيقاف السيارة في حوش في آخر الحي والنوم مبكرا وشرب الحليب الخالي من الدسم قبلها، وصاحب عمارة يشترط فتح ملف عند حارس العمارة به كافة الأوراق الثبوتية وصورة من بطاقة الهوية الوطنية أو الإقامة وصورة عن جواز السفر وشهادات ميلاد الأولاد والإبلاغ عن حالات الولادة والوفاة قبل تسجيلها في مكتب الأحوال المدنية وتسليم برنامج الإجازة الأسبوعية يوم الاثنين وبرنامج الإجازة الصيفية قبلها بشهر والاجتماع لمعرفة نوع الزيت الذي سوف يستخدم للقلي في رمضان القادم فمراوح الشفط مبرمجة على زيوت من إنتاج محلي فقط.



ويا لثبور وخسران من وقع ضحية الظروف وتأخر عن دفع إيجار مستحق لصاحب عمارة يده طائلة في البلد وله من «الواسطات» والمعارف أكثر مما له من الحسنات والنفقات، فذلك المستأجر سيتعرض لإرهاب لم تستطع كل الجماعات والتجمعات والأفكار والفرق أن تنتهجه، وسيكون حقلا لكل أنواع التجارب الفئرانية والمختبرية والشرطية والحقوقية، وسيحبس عنه صاحب الملك الماء والكهرباء والنفس والهواء، ويخبر الجيران بحاله والأقارب والمعارف وزملاءه في العمل وأصهاره وأولاده وشركة التقسيط التي منها سيارته، وسيحجز على عفشه ومكيفاته وغسالته المتعطلة وأنبوبة الغاز وطفله الرضيع في حضانة مستشفى الولادة حتى يدفع إيجار المنزل أو يخرج من الشقة من غير «قشة» أثاث في إيجار سينتهي به للتوحش على المجتمع بأسره.



[email protected]