مثقف في برج عاجي

الأربعاء - 03 يناير 2018

Wed - 03 Jan 2018

يدعي البعض أن المثقفين يجلسون في «قصور عاجية»، أو بأنهم معتزلون للمشهد أو بنعوت أخرى لن يتسع لها هذا المشهد.

يقول أحد الأصدقاء المثقفين: «ربما كان اعتكاف القصور العاجية خيرا لرؤية الأمور بوضوح، حيث إن الجماهير عاطفية بعض الشيء، وغالبا ما يطغى عقلها الجمعي على الفردي، وهي إما مندفعة أو مندفعة!»

وسواء اتفقنا على تعريف للمثقف أم لم نتفق، فإنني أقول إن سمة الحساسية من الطباع الأصيلة لدى المثقف الحق، ولعل هذا الأمر يجعلنا أكثر تفهما لجنوح المثقف إن صح القول أو اختياره للعزلة.

منذ فترة لبى أحد الأصدقاء دعوة لتظاهرة ثقافية في مدينة شاءت الأقدار أن يكون متواجدا فيها رغم أن الدعوة جاءته في آخر لحظة، وبعد أن قام بتأجيل رحلة عودته احتراما للدعوة على الرغم من وصولها متأخرا؛ إذا بشاب عشريني يتصل به ويقول له بكل برود أن يؤجل قدومه لليوم التالي وربما الذي يليه، ولما أخبره بأنه لا يستطيع ذلك قال له الشاب عديم الخبرة «إن شاء الله مرة ثانية، إذا تعرف لنا أحدا ثاني كاتب أو مثقف بالله خليه يكلمنا!».

ومثقف آخر اتصلت به مراسلة لصحيفة محلية طالبة منه التعليق على حدث معين، وفوجئ المثقف في اليوم التالي بحديث آخر مضاف إلى سياق حديثه دون إذن منه!.

كثير من المثقفين غابوا لأنهم أبوا أن يكونوا «سدا لفراغ» طرأ في آخر لحظة، وربما آثروا ألا يشاركوا في جوقة تافه، وبعضهم آثر الابتعاد في زمن التنابذ والحروب الكلامية.

بعض المثقفين لم يعترضوا على الباطل علانية إيثارا للسلامة، لكنهم في الوقت ذاته لم يصفقوا له! والبعض الآخر عاهد نفسه على عدم الاحتفاء بأمر لن يستطيع نقده!

وفي حين قبلت كثير من الشعوب فنانيها ومثقفيها على علاتهم وأحيانا شذوذ تصرفاتهم، نجد البعض ينتظر من المثقف أن يكون كاملا ومثاليا، وما إن يتصرف أمامهم بتلقائية فإنهم يصدمون من بشريته!

المثقف مثل الطبيب، يشخص ويكتب العلاج، وإن تجاهلت نصيحته، فلا يملك إلا أن يمضي إلى مريض آخر.

المثقف الحقيقي لا يركض خلف الأضواء، بل هي ربما تجهر عينيه، وهو سعيد بعالمه الذي يسير فيه بثقة ونسق ثابت دون ضوضاء، على عكس بعض المزيفين الذين يقتاتون على حب الظهور وابتداع خدع سحرية جديدة لجذب المزيد من العوام والسذج، والمثقف ينظر إلى هذه المسرحية بإشفاق، رافضا أن يكون جزءا منها.