محمد أحمد بابا

الخط والغول والعنقاء والخل الوفي

الأحد - 17 ديسمبر 2017

Sun - 17 Dec 2017

بدا لي بأن تعلم الكتابة في سنوات التعليم الأولى للإنسان مثل تعلم المشي للطفل بعد الحبو. فليس من الغريب إذا توقعنا مستقبلا أن يكون الخط باليد أحد فروع الرياضة في الأولمبياد العالمي لا يحسنه إلا فئة أحبته وتفرغت له.

وحين قال شاعر قديم: (كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحاب لا ريث ولا عجل) لاحظت بأن ذلك قد يكون مرتبطا باتساق تعليم في الصغر، فاستمر فصار ميزة.

من يبحثون في تحليل الشخصية من خلال الخط والتوقيع وطريقة الكتابة حق لهم إذ فعلوا، فالناس في مشيتهم أجناس، مشوا على الأرض أم على الورق.

تعلم الخط كرسم وفن يقلل من وفرة تلك القدرة على تمييز الشخصيات إلا بين مجموعة الخطاطين المتمرسين.

لكن انفراد كل قلم بطريقة كتابة يجعل من محاولة التقاط تصنيفات شخصيات أكثر استحضارا، فقد كان الناس قبل التقنية يملكون حاسة معرفة فلان من خط قلمه وفلانة من رسم حرفها.

أضحت اليوم الكتابة الالكترونية - في طابع الصحيح منها - مثار تعمية للشخصيات من ناحية الخط والحروف وشكلها.

كالمشي تماما، حين لا يثير فضول معرفة القادم من بعيد إلا في ممشى أعد لذلك، ومن أفراد تفرغوا أو اهتموا بهكذا نشاط كرياضة وصحة لا كعادة واستخدام.

أتاحت الأخطاء الإملائية والنحوية واستخدام علامات الترقيم في عالم الطباعة فرصة تمييز بين شخصيات تكتب خلف لوحة المفاتيح، لمن كان له بال ومزاج في مراجعة وتدقيق.

والمشية المنضبطة بدت غائبة حتى في اصطفاف طابور صباحي، حيث اعتدنا في الآونة الأخيرة رؤية فريق منهم يتمايلون كأنهم ما دربوا يوما.

انضبطت الأنثى منذ سنوات الدراسة في خطها الكتابي بالقلم، فظهرت في المجمل أكثر عناية برسم الحروف، حتى غدت في مشيتها وفق الأعراف منسجمة مع ذلك حين نراها تسير على الأقدام.

لا أدري ربما العودة لتعلم الخط كما تدعو له مبادرات كثيرة هو ملجأ الباحث عن الأجمل حين نقدم المعنى في كلمات.

قديما أتذكر (الخط) مادة دراسية حتى تخرجت في الثانوية، وكنا نلزم أنفسنا بتجميل وتحسين خطنا ونحن نقدم واجبا أو اختبارا كأنها رشوة جمال لعيون المصحح.

كما كانت هي مشيتنا - تدريبا وتعويدا - فاتسق الخط مع تحرك أقدامنا رغم أن الكتابة باليد.

ما أجمل الخط العربي قديما وحديثا حين تلد محابر الأقلام عبارة أو نصا يجعل الناظر ذا حظ عظيم، والقارئ صاحب جنتين، والكاتب مبدع إنتاج.

ربما أنا ومن هم في عمري لا نزال نحمل القلم في جيوبنا رغم قلة استخدامنا له، على الرغم من أن جيلا كاملا بعدنا لو حظي باستقصاء واستبيان لوجدت مجموعة في مكان لا يحمل منهم أحد قلما.

محزن جدا ألا يبقى من رحيق الأقلام إلا فلسفة توقيع، ومؤسف للغاية ألا تنخرط الكتابة والخط ضمن الحرف اليدوية التي تشجعها مبادرات العمل، فالخشية أن يصبح القلم والخط به رابع النادرات الغول والعنقاء والخل الوفي.