كفى بناء للمساجد!

الجمعة - 11 أغسطس 2017

Fri - 11 Aug 2017

تربينا منذ أن كنا صغارا على أن أعظم أوجه الخير يكمن في بناء المساجد، وزرعت فينا هذه الفكرة حتى أصبح من يتوفى لهم عزيز، وقبل انقضاء اليوم الأول في عزائه، وفي خضم الحزن الذي يعيشونه، تجدهم يتهامسون متسائلين عن مكان الأرض التي سيبنون عليها مسجدا للفقيد، أو الدولة التي سيجعلون لفقيدهم فيها بئرا، مرددين ومذكرين أنفسهم «من بنى مسجدا لله، ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتا في الجنة».

في كثير من مناطق المملكة، يتم بناء المساجد على مساحات واسعة وبتكلفة تبلغ ملايين الريالات، ثم بعد فترة من الزمن تجد هذه المساجد تعاني من سوء النظافة وسوء الصيانة، وعلى الرغم من أن عدد الصفوف في بعضها يزيد على 50 صفا إلا أن عدد المصلين فيها لا يزيد على صف واحد. أليس هذا بالله أمرا يجب الوقوف عنده؟ أليس هذا تبذيرا للمال وهدرا للجهد والمساحات؟ أليس التبذير حراما كما يعلموننا؟ أليس من الأولى أن نبحث عن طرق أكثر إبداعا في عمل الخير؟ أليس في الدنيا من أعمال خير غير بناء المساجد؟

كل مرة أزور فيها منطقتي، وأنا أغادر منطقة المطار، أنظر لذلك البناء العملاق الذي لم يتوقف منذ 4 سنوات، وتلك الرافعات الضخمة التابعة لإحدى أكبر شركات المقاولات في المنطقة، يتم بناء مسجد فيها على مساحة شاسعة ربما تكفي ثلاثة إلى خمسة آلاف شخص، فأنظر إليها بحسرة وألم، وأنا أقول قتلوا الأرض بهذا المسجد. نعم قتلوها والله! هذه المنطقة واحدة من أفضل المناطق التجارية وكان لها مستقبل تجاري رائع، ولو تم بناء سوق فيها كان ربما سيكون أحد أكبر وأهم الأسواق في المنطقة، لكنهم قتلوها بهذا المسجد. كان يمكن أن يكون هذا السوق وقفا تبنى من عوائده عشرات المساجد وتنفذ الآلاف من الأعمال الخيرية.

كل مرة أزور فيها منطقتي، لا أجد شيئا ينمو فيها غير المساجد، فتجد في الحارة الواحدة والحي الواحد مسجدين أو ثلاثة، بمساحات مختلفة، أقلها لا يقل عن 10 صفوف. ورغم أن إقبال الناس على عمل الخير يعد أمرا رائعا إلا أن الأصل في الأشياء أن يكون التوسع للحاجة وليس ترفا، فالمساجد تبنى بمساحات كبيرة ثم لا يصلي فيها أكثر من 20 شخصا في الفرض الواحد، وتبقى باقي المساحة معطلة لا تنفع أحدا، بل إنها تكون عبئا على المسجد وعلى الدولة، ففيها تكلفة إضافية في الكهرباء والصيانة والنظافة، وهي مساحة كان يمكن شغلها بشيء أفضل فيه منفعة للناس.

في ظل الرؤية السعودية، والتوجه لخصخصة الكثير من المؤسسات الحكومية وتخفيض التكاليف والانطلاق نحو اقتصاد أكثر فعالية وأكثر اعتمادا على ذاته، يفترض أن نكون أكثر إبداعا في بناء المساجد وتنفيذ أعمالنا الخيرية. المساجد خاصة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، يجب أن تتحول لتتوافق مع التوجه الوطني. يجب أن يحتوي الجزء الخارجي من كل مسجد على محلات تجارية ومراكز تسوق تحيي المناطق وتنفع الناس وتكون عوائدها للمسجد وللأعمال الخيرية المرتبطة بالمسجد. يجب أن تكون هناك نماذج وطنية موحدة لبناء مساجد مستدامة، مساجد تعتمد على نفسها ماليا وتخلق الفرص الوظيفية وتدعم الاقتصاد وتخدم المجتمع وصديقة للبيئة.

المملكة لم تعد تحتاج لبناء مساجد جديدة إلا في الأحياء الجديدة، ما عدا ذلك فيجب التركيز الآن على تعديل أوضاع المساجد والجوامع الحالية لتكون أكثر استدامة وتساهم في تحقيق اقتصاد وطني قوي ومتين. أما غير ذلك، فيجب أن نتوقف فورا، يكفي بناء للمساجد بشكل عشوائي وغير مخطط له. هناك طرق أخرى لعمل الخير، ربما تكون أوفر تكلفة، وأكثر أجرا من بناء المساجد وأكثر منفعة للبشر، لماذا لا يتم النظر إليها؟ فـ «الأعمال الخيرية لا تقتصر على بناء المساجد ذات المساحات الشاسعة والقباب المعتقة والمآذن العالية ثم لا يزيد عدد المصلين فيها عن صف واحد». كنت دائما أنتقد العشوائية والتكرار في عمل الخير، فجل أعمال الخير التي يقوم بها عامة الناس لا تخرج عن بناء المساجد وحفر الآبار وكأن الدنيا لا يوجد بها من الخير غير المساجد والآبار.

للكويتيين أساليب أكثر إبداعا منا في عمل الخير، ربما أن رائد هذا الإبداع الشيخ الدكتور عبدالرحمن السميط رحمه الله الذي جعل من أفريقيا مركزا لأعماله التطوعية غير التقليدية، فبدل أن يبني المساجد ويحفر الآبار فقط، كان يعلم الناس ويبني المدارس والجامعات ويكفل الطلاب حتى يتخرجوا ليعملوا مستقبلا ويعيدوا ما صرف عليهم للمؤسسة التي رعتهم ليتم استخدام هذه الأموال في رعاية طلاب آخرين، وهكذا يستمر العمل إلى ما لا نهاية. أعجبتني فكرة سيدة كويتية كتبت في تويتر «توفي والدي عام 2011 وقررنا أنا وأمي وإخوتي جميعا أن نتكفل بدراسة طالب طب، صدقة جارية عن والدي، وقد تخرج الطالب قبل أسبوع طبيبا يفيد البشرية» كم نفسا سيحفظها هذا الطبيب؟ اسأل نفسك؟