حسين بافقيه

بات ساجي الطَّرْف!

السبت - 08 يوليو 2017

Sat - 08 Jul 2017

هذا مطلع بيت لقصيدةٍ مُغَنَّاةٍ كُتِبَ لها الذُّيوع والانتشار في غير رجًا مِنْ أرجاء الجزيرة العربيَّة، فتارةً يشدو بها مغنُّون يمانيُّون بلونٍ بديعٍ مِنْ ألوان الغناء الصَّنعانيّ، وإذا مِلْنا إلى الحجاز ألفَيْنا القصيدة نفسها مغنَّاةً على وفق الألحان الحجازيَّة التُّراثيَّة، ثمَّ إذا يَمَّمْنا وجوهنا صوْب شواطئ الخليج العربيّ طَبَعَتْ أغاني البحر هذه القصيدة بلونها، فإذا بنا إزاء أغنية بحريَّة كأبدع ما تكون أغاني البحر، وكأنَّها إنَّما نُظِمَتْ لهؤلاء البحَّارة، يتناجون بها، في عُرْض البحر، يشتاقون بها إلى الأهل والحبيب والصَّديق.



والحقّ أنَّ هذه القصيدة المغنَّاة لا يَمَلُّ المستمع إليها، سواء تَدَرَعَّتْ بالنَّغم الصَّنعانيّ، أوِ الدَّانة الحجازيَّة، أوِ الزِّير الخليجيّ، وهي قصيدة بديعة أنشأها الشَّاعر فتح الله ابن النَّحَّاس الحلبيّ ثُمَّ المدنيّ، المتوفَّى سنة 1052هـ، فهو، إذنْ، شاعر يعتزي إلى قرن مِنْ تلك القرون المتأخِّرة الَّتي كان الشِّعْر قدِ انحسر مدُّه، وضمُر أثره، حتَّى عافه الملوك والسَّلاطين، وأنَّى لهم أن يميلوا إليه، وهو يرتضخون لسانًا أعجميًّا، يَحُول بينهم وبين ما انطوى عليه الشِّعْر مِنْ ثقافة، هي أصل مِنْ أصول الثَّقافة العربيَّة مهما امتدَّتْ في الزَّمان.



ذاعتْ هذه القصيدة ذيوعًا عظيمًا، وتغنَّتْ بها حناجر كثيرة، نعرف جمهرة مِنْ أصحابها، وتضيع عنَّا أسماء جماعة أخرى، لكنَّنا، في كلّ الأحوال، إزاء قصيدة احتفلتْ لها مجالس الغناء والطَّرب في طول الجزيرة العربيَّة وعرْضها، حتَّى تلوَّنتْ بكلّ بيئة نشأتْ فيها، فهي يمانيَّة على نحو مِنَ الأنحاء، وحجازيَّة على نحو ثانٍ، وكويتيَّة، أوْ خليجيَّة، على نحو آخر، وربَّما أعيانا الوقوف على أسماء كلّ مَنْ تغنَّى بهذه القصيدة، وحسْبنا أنْ نذكر مِنْهم: المسلَّمي، ومحمَّد جمعة خان، ومحمَّد مرشد ناجي، وأبا نصَّار، وفؤاد الكبسيّ، وكلُّهم يمانيُّون، ومحمَّد عليّ سنديّ، وفوزي محسون، وطارق عبد الحكيم، وطلال مدَّاح، ومحمَّد عبده، وفؤاد بنتن، ويحيى لبَّان، ومحمَّد عمر، وكلُّهم سعوديُّون، وسواء ألقيْتَ سمعك إلى لحن صنعانيّ، أو حجازيّ، أوْ كويتيّ، فأنت في كلّ أحوالك، تُصِيب طرفًا مِنَ الفنّ بديعًا، ولعلَّك تدرك مقدار ما لهذه القصيدة مِنَ الفنّ، ومقدار ما بلغه منشئها فتح الله النَّحَّاس في الشِّعْر، حِين تعلم أنَّ هذه القصيدة المغنَّاة شاعتْ في مجالس الطَّرب والغناء، جيلًا بعد جيل، حتَّى عُدَّتْ تراثًا يتناقله الخَلَف عن السَّلَف، في حرص وأمانة في التَّلقِّي والأداء.



والحقّ أنِّي أكتب هذا الفصل، وأصوات القصيدة تتجاوب ألحانها اليمانيَّة والحجازيَّة والكويتيَّة، وتسرح بي أبيات القصيدة في جبال صنعاء، وبطحاء الحجاز، وشواطئ الخليج، دون أن يعنيها شيء مِنْ أمر شاعرها فتح الله ابن النَّحَّاس، فأبياتها استقلَّتْ عنْ المنشئ، وعن الزَّمان والمكان، وعَبَرَتِ القرون، وتناقلتْها الألسن، واستوعبتها الأسماع، واستكانتْ إلى أصل الشِّعْر، كما يريده العرب، فالشَّاعر يرجو أن تشرد أبيات قصيدته، وتكثر سوائر أمثالها، وتردِّدها الألسن، ويلقانا كلّ أولئك في هذه القصيدة، الَّتي وإنْ تكن مِدْحة في الأمير محمَّد بن فرُّوخ، أمير الحجّ الشَّاميّ = فإنَّها انطوتْ على خير ما يطلبه أهل الغناء والطَّرب مِنَ الشِّعْر؛ أن يَفْرَغ للحبّ والغرام، وأن يَصْلح لمجالس الغناء.



بَاتَ سَاجِي الطَّرْفِ، والشَّوْقُ يُلِحُّ

والدُّجَى إن يَمْضِ جُنْحٌ يَأْتِ جُنْحُ

وَكَأَنَّ الشَّرْقَ بَابٌ لِلدُّجَى

مَا لَهُ خَوْفَ هُجُومِ الصُّبْحِ فَتْحُ

يَقْدَحُ النَّجْمُ لِعَيْنِي شَرَرًا

وَلِزِنْدِ الشَّوْقِ فِي الأَحْشَاءِ قَدْحُ

لَا تَسَلْ عَنْ حَالِ أَرْبَابِ الهَوَى

يَا ابْنَ وُدِّي، مَا لِذَاكَ الحَالِ شَرْحُ

لَسْتُ أَشْكُو حَرْبَ جَفْنِي والكَرَى

لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّوْمِ صُلْحُ

ومعظم أبيات القصيدة مختار.



وعلى أنَّ المؤرِّخين يذكرون أنَّ فتح الله ابن النَّحَّاس رُزِقَ شِعْره القَبُول والانتشار في النَّاس، فإنَّ هذه القصيدة رُزِقَتْ، كذلك، الذُّيوع والانتشار، فأنشأ طائفة مِنَ الشُّعراء يعارضونها، ونقرأ في الدِّراسة النَّفيسة الَّتي وَطَّأَ بها أستاذنا الدَّكتور محمَّد العيد الخطراويّ للدِّيوان أسماء جمهرةٍ مِنَ الشُّعراء الَّذين عارضوها، مِنْذ عصر ابن النَّحَّاس، في القرن الحادي عشر الهجريّ، حتَّى القرن الرَّابع عشر الهجريّ (العشرين الميلاديّ)، فالقصيدة، إذا ما استعرْتُ عبارات عمود الشِّعْر، بُنِيَتْ على متخيَّرٍ مِنْ لذيذ الوزن، أمَّا الحاء المضمومة الَّتي اتُّخِذَتْ رَوِيًّا، فرُبَّما زَيَّنتْ لكوكبة مِنَ الشُّعراء معارضتها والسَّير على نهجها، منهم محمَّد بن حجازيّ بن أحمد الرَّقَباويّ الإنبابيّ المتوفَّى بأبي عريش سنة 1078هـ، والسَّيِّد جعفر البيتيّ المدنيّ المتوفَّى سنة 1182هـ، وأزيد على ما أورده الخطراويّ أسماء إبراهيم بن سعد المنوفيّ الشَّافعيّ المكِّيّ المتوفَّى أواخر القرن الحادي شعر الهجريّ، وقاسم حمدي بن يحيى السَّعْديّ الموصليّ المتوفَّى سنة 1255هـ، وابنَ مشرّف الإحسائيّ المتوفَّى سنة 1285هـ، ومصطفى وهبي التَّل المتوفَّى سنة 1368هـ، والملك عبد الله الأوَّل بن الحسين، مؤسِّس المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة المتوفَّى سنة 1370هـ، بلْ إنَّ أستاذنا الخطراويّ – رحمه الله – يزيد فيذكر أنَّ إبراهيم ناجي استفاد مِنْه في قصيدته المشهورة «الأطلال»، حين قال:



أيُّها الشَّاعِرُ تَغْفُو تَذْكُرُ العَهْدَ وَتَصْحُو

وَإِذَا مَا الْتَامَ جُرْحٌ جَدَّ بِالتَّذْكَارِ جُرْحُ

أخذه مِنْ قول ابن النَّحَّاس:

كَمْ أُدَوِي القَلْبَ! قَلَّتْ حِيلَتِي

كُلَّمَا دَاوَيْتُ جُرْحًا سَالَ جُرْحُ



مع فارقٍ يسيرٍ، أنَّ بيتي إبراهيم ناجي مِنْ مجزوء الرَّمَل، وقصيدة ابن النَّحَّاس مِنْ وافيه.



@hussain_bafagih