عبدالعزيز الخضر

التوثيق الرياضي: التاريخ ليس مجرد أرقام

السبت - 12 نوفمبر 2016

Sat - 12 Nov 2016

نفتقد في ثقافتنا المحلية في أكثر من مجال للوعي بتراكم الأشياء وتطورها التاريخي، مما يسهل تمزيق كل الماضي وتفصيله وفق أهوائنا، بالاستفادة من رحيل أجيال في كل مجال، بسبب ضعف أدوات التدوين والتحليل المنظم لمؤسساتنا وإعلامنا، فيصبح التاريخ مجرد جداول وأرقام، وقصاصات، ومقالات انطباعية تغيب في كومة الأرشيف الضخم منذ عقود، ولم أتوقع أن تنتقل فكرة تطورت من مناكفة متأخرة من منتديات نت إلى قضية توضع لها لجان ويغالط فيها شخصيات اعتبارية ومخضرمة. خاصة أن الموضوع لا علاقة له بمعلومات مفقودة وأرقام يشكك فيها، فأرشيف الصحافة يوفر كل شيء، لكن المغالطة المتأخرة هي في محتوى الفكرة التي تتوهم أن الإنجازات مجرد أرقام نكبرها بأي طريقة!



ما هو الإطار التاريخي لما حدث، لا أريد الدخول في جدل رياضي لست معنيا به، وإنما عرض ما هو مغيب ولا يعرفه صغار السن، وهو السياق الاجتماعي للوعي الرياضي حول القضية المفتعلة، وكيف ضخمت في السنوات الأخيرة، وهو يتكئ على قاعدة جماهيرية واسعة لأربعة أندية.

يمكن تقسيم تاريخ الرياضة وفق تطورات التنمية في المملكة إلى مرحلتين. الأولى منذ الخمسينات إلى منتصف السبعينات كمرحلة انتقالية تعرضت فيها الرياضة الناشئة إلى تحولات كثيرة، وانتقلت إلى أكثر من جهة قبل أن تستقر على أسس ويكون لها كيان خاص مع بداية خطة التنمية الأولى، وتأسست رعاية الشباب في عام 1974.



وكانت انطلاقة الدوري السعودي الممتاز 1977 أهم تحول رياضي ينظم المنافسة على مستوى أندية المملكة، والأهم أن الذاكرة الرياضية في المجتمع بدأت تنتظم وفق منهج منافسات واضحة المعالم لتصنيف الأندية في كل مدن المملكة، ومع ذلك لم يلغ التاريخ الرياضي لما قبلها فقد حافظت بطولات كؤوس الملوك على قيمتها التاريخية رياضيا، لكن الدوري أخذ قيمته الجديدة كأهم منافسة رياضية تدل على قوة النادي وعلو كعبه على مستوى الأندية كمنافسة طويلة يقل فيها عامل الحظ والمفاجأة.



والقضية ليست مجرد صف أرقام وإنما نوع البطولة وقيمتها الاعتبارية رياضيا، فكل تاريخ نادي الوحدة وريادته في البدايات لم ينفعه شيئا طالما أنه في المرحلة الثانية لم يحقق منجزات وأي دوري ممتاز.

تحددت الأندية الكبيرة والمتوسطة والضعيفة في الذاكرة الاجتماعية الرياضية الحديثة مع نشوء وظهور ملامح مجتمع النفط والوفرة، فكان مصطلح الأربعة الكبار واضحا للثقل الجماهيري وقوة التنافس، يفرض نفسه على الوعي الرياضي في تلك المرحلة، وقوة معتبرة لشيخ الأندية وفارس الدهناء، والبنية الأولى التي تشكل عليها الاتساع الأفقي للتشجيع الرياضي مع انتشار توزيع الصحف ونقل المباريات مباشرة، وهذه نقطة تحول كبرى جذبت في المجتمع جمهورا واسعا خارج المدن الكبيرة في المملكة.



لم يحضر تعداد البطولات وليس مفكرا الاختلاف فيه حينها مع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، ومع نهاية كل موسم تعرض الصحف إنجازات كل فريق، في تلك السنوات كان هناك أهلي أحمد الصغير وأمين دابو متألق دائما، ولا بد أن يظفر ببطولة، ونصر خالد التركي وناصر الجوهر ثم جيل ماجد ويوسف خميس، أما الاتحاد فلم يكن في تلك البدايات إلا مجرد تاريخ وجمهور مخلص، وعاش تلك المرحلة خالي الوفاض من منجز قوي، وأما الهلال فكان مقاربا للأهلي والنصر في الإنجازات لكنه أقل إبهارا وغير مقنع حتى مع وجود أجانب استثنائيين، قبل مجيء جيل الثنيان وتخريج المدرسة عشرات الأسماء اللامعة التي غيرت من شكل هلال السبعينات وأوائل الثمانينات.



عندما كان النصر والأهلي تعداد بطولاتهما متقاربا مع الهلال إلى نهاية الثمانينات وبداية التسعينات لم تكن هذه قضية إشكالية، فالعرف الرياضي استقر على تعداد البطولات وفقا لذهنية ما بعد المرحلة الثانية، بدأ الأهلي يخرج من المنافسات مع نهاية الثمانينات وجاء فريق الشباب وبدأ يأخذ حصة وافرة من البطولات ولأنها في البداية لم يكن أحد يهتم بها، وكأنها مجرد مفاجآت، لكن الذي حدث أن الليث استمر في حصد الألقاب وحصد خلال ربع قرن بطولات عددها مقارب لبطولات النصر، الذي كان خرج من المنافسات طويلا خلال عقدين، ظهر الاتحاد في مرحلة غياب النصر والأهلي واكتسح كما كبيرا من البطولات مع الهلال والشباب.



جمهور النصر تميز بقدرة فذة خلال فترة توقف فريقه عن المنافسة باختلاق القضايا وهو جمهور فعال يستحق دراسة إعلامية خاصة، صنع بإعلامه وأسلوبه الاستفزازي عقدا حقيقية لمنافسه، مما جعله يخسر إنجازات آسيوية بسبب العامل النفسي. كان هذا الجمهور يطمئن نفسه بعد زيادة الفارق بالبطولات بأنه أكثر فوزا بمواجهات الفريقين وكأنه عقدة له، لكن حتى هذا الحاجز استطاع جيل سامي ثم الشلهوب كسره، وتجاوزه ولم يعد عند هذا الجمهور شيء يستفز فيه خصمه إلا حكاية العالمية، وهي بذاتها أبرز نجاح لجمهور منظم عاطفيا لصناعة من الحبة قبة.



ويبدو أن هذا النجاح أغرى النادي والجمهور بالاستمرار بعملية التشويش والتشكيك بحكاية البطولات وعددها، وكانت بدايتها في مرحلة المنتديات ولم تؤخذ بجدية، وعندما عاد النصر للبطولات وجد أن المسافة هائلة بينهما، فاستمر بهذا الأسلوب الذي يناقض أعراف نشأة الذاكرة الكروية وانقلب عليها. وجد جمهور الأهلي هو الآخر هذا الموضوع جذابا ومغريا وفرصة وهو يعاني من عقدة الدوري قبل أن يفوز به العام الماضي. وكان دخول إعلاميين مخضرمين وشخصيات اعتبارية لها صفة رسمية ومذيعين تستهويهم مغازلة جمهور معين بالعبث بالذاكرة والتشويش على الأجيال الجديدة، كما يحدث لدينا في مجالات أخرى.. هنا غابت الأيديولوجيا، لكن حضر التعصب والمنافع الشخصية.



[email protected]