صالح عبدالله بوقري

مشوار الأربعين عاما

الاحد - 23 أكتوبر 2016

Sun - 23 Oct 2016

انطلق بدراجته النارية يحمل ما حصله والده من إيجارات لبيت العائلة القديم في البلد الذي هجرته معظم أسر العائلة بعد أن توسعت وكبرت إلى الأحياء الجديدة في مدينة جدة.



كان عليه تسليم المبلغ الذي وضعه بحرص في جيبه العلوي إلى عم والده في طريق مكة حيث يسكن وأسرته بعد أن تركوا البلد مع من ترك من أهل البلد.



كان يوما حارا رطبا ككل أيام العام في جدة - وإن كان الوقت بعد العصر - فقد كابد في مشواره الطويل ولا خيار أمامه سوى المضي في هذا الجو الحار إرضاء لوالده مستعينا من وقت لآخر بمنديله يمسح عرقه المتصبب كلما شعر بالملوحة في فمه، أو كلما تطايرت حبات العرق الساقطة إلى عينيه بفعل الهواء المشحون بالرطوبة الذي استمر يضرب وجهه طيلة المشوار.



أوقف دراجته وأصلح من ثوبه ثم نظر في مرآة الدراجة مسويا شعره الذي تفرق يمنة ويسرة وغشاه الغبار والرطوبة، وبعد أن اطمأن إلى نفسه ودراجته تحسس جيبه ليتأكد من المبلغ الذي كلفه هذا العناء والذي سيوزعه عم والده على أسر العائلة التي تشترك في ملكية بيت البلد، كما يسميه من غادره منهم.



وضع يده على الجرس وأعادها يتحسس جيبه ثم يسوي شعره وانتظر حتى سمع حركة قادم إلى الباب وانفرج الباب وكانت إحدى بنات عمه التي لم يكن متأكدا من اسمها، فبادرها قائلا: أحضرت الإيجارات لسيدي ممكن أعطيه الفلوس؟ أجابت: مين أقوله؟، أجابها «وكان وجهه ما زال ينضح بالعرق بفعل مشواره»، أجابت «وشعر من إجابتها» أنها أدركت حاجته لشربة ماء: تفضل.



أدخلته إلى الصالون وأدارت له المكيف ثم أحضرت له كأس ماء بارد وانصرفت تبلغ (جدها) سيدها وسيده كذلك.. وهكذا كان جيلهما يدعوه وما زال.



تناول الماء منتعشا في الجو البارد بسبب التكييف، مرتاحا على المقعد الأثير في الصالون، داهمه لحظتها إحساس غريب بالطمأنينة نقله من عناء مشواره إلى عالم ناعم جميل لم يجربه ولم يعرفه، فلقد قضى أيامه السابقة في عناء دائم يستيقظ من نومه للعمل ومن عمله إلى الجامعة متنقلا بدراجته النارية التي اشتراها بما جمعه خلال العمل في إجازات الصيف المدرسية حتى انتهى من دراسته ونال البكالوريوس ثم حصل على وظيفة أفضل براتب أعلى تقديرا لشهادته.



لمعت لحظتها في ذهنه فكرة جريئة رائعة أراد من خلالها أن يتمسك بهذه اللحظة العابرة ليجعلها تمتد إلى مرحلة أطول في حياته، وأن لا تنتهي عند هذه التجربة القصيرة.



خرج بعد أن سلم عم والده حصيلة الإيجار وعاد إلى بيتهم وكانت الفكرة التي داهمته في لحظات الانتظار قد طغت على تفكيره وأخذ يفكر في الطريقة التي يفاتح بها والده ووالدته، وكلما يعود إلى نفسه ويدرك أنه انتهى للتو من الجامعة، وأن وظيفته الأخيرة تضمن له راتبا مميزا، بالإضافة إلى امتيازات من شركته قلما تتوفر لكثير من أقرانه، يجد أن الأمر سيكون سهلا ومقبولا ومقنعا لكل الأطراف.



وفي عصر اليوم التالي كان يصلي العصر مع والده في نفس البيت الذي جاءه بالأمس، ولكن اليوم جاء في هندام آخر أكثر أناقة وراحة، جاء متقدما لخطوبة من فتحت له الباب بالأمس، وكأن الحياة فتحت ذراعيها له من يومها..



ذلك اليوم الذي تلاه ترحال في بلدان كثيرة وعجيبة بسبب عمله، رزق خلالها أبناء وأسرة تكبر وتكبر وحياة أكثر رفاهية وسعة مما كان عليه الحال أيام دراجته النارية التي كان يتنقل عليها من هدف إلى هدف، ومن مرحلة إلى مرحلة أخرى، ومن حال إلى حال أحسن بفضل الله.



وهو اليوم يبتسم عندما يجلس إلى أبنائه وأحفاده، ويسمع بناته يعيدن السؤال على أمهن في دعابة لا تخلو من نبرة جادة «ماما ممكن نعرف إيش حكاية كاسة الموية، وخليتي بابا يرجع لك ثاني يوم، ويبقى معاك أربعين سنة حتى اليوم، وكان مشواره ينتهي بعد ساعة من زيارته لكم؟».