تونس تغادر "الموقت"

أفرزت توافقات الانتقال الديموقراطي في تونس، نتائج أدق تعبيراً عن وجهة المجتمع التونسي. وشاهد المواطنون بأمهات عيونهم، عبر شاشات التلفزة، عملية انتخابية

أفرزت توافقات الانتقال الديموقراطي في تونس، نتائج أدق تعبيراً عن وجهة المجتمع التونسي. وشاهد المواطنون بأمهات عيونهم، عبر شاشات التلفزة، عملية انتخابية

الاحد - 28 ديسمبر 2014

Sun - 28 Dec 2014



أفرزت توافقات الانتقال الديموقراطي في تونس، نتائج أدق تعبيراً عن وجهة المجتمع التونسي. وشاهد المواطنون بأمهات عيونهم، عبر شاشات التلفزة، عملية انتخابية شفافة. كأنما كان المواطنون يهرولون إلى قصر قرطاج، حاملين على أكتافهم المرشح الضامن لبقاء الدولة والعارف بخباياها. فقد رأت أكثرية التونسيين في المرشح الخاسر، المنصف المرزوقي، رجلاً يجهلها ويفتح الثغرات في جدارها، لجماعة «النهضة» التي تنمو في موازاتها مجموعات عنف يعصف باستقرار البلاد. ولكي يُطمئن الفائز بالرئاسة، الباجي قايد السبسي، مواطني الريف التونسي الجنوبي الذي ظل مهمشاً

لا حظ له من التنمية، وصوّت للمرزوقي؛ ألا تطبيع إطلاقاً، مع نظام بن علي وألا عودة لأساليب الحكم فيه، ولن يكون رئيس الحكومة من وزرائه السابقين أو الأسبقين. فبعد إعلان النتائج، خاطب مواطنيه بالآية القرآنية الكريمة من سورة الأحزاب: «إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبينَ أنْ يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنّه كان ظلوما جهولا». وقد أتيح للشعب التونسي، الآن، في النظام الجديد، أن يعبر عن نفسه وعن أمنياته، في حلبة السياسة لا في أقبية الإرهاب والفتنة. وسيكون للناخبين الذين صوّتوا للمنصف المرزوقي، حق الاصطفاف في معارضة قوية قادرة على مراقبة الحكام الجدد، وعلى تعطيل السياسات التي تتعارض مع منطلقات ثورة التونسيين. وفي هذا السياق الآخر، من خيارات المجتمع، التقط المنصف المرزوقي اللحظة التي يعلن فيها عن تأسيس «حركة شعب المواطنين». وهذه التسمية بحد ذاتها، تنم عن فكر جديد، يكّرس مفهوم المواطنة ويدحض مفهوم الرعايا تحت لافتة «الجماهير» التي ظلت غطاءً افتراضياً لديكتاتوريات العنف والفساد.

بعد حسم السباق إلى قصر قرطاج، بفوز قايد السبسي، بات من المتوقع شعبياً، أن تنعكس وجهة الرجل المُسن؛ من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية لا تستثني الإسلاميين المعتدلين المعارضين للعنف، الذين يمثلون القوة الثانية في المجتمع، وفق ضمانات وتطمينات. وقد ظهرت بوادر مثل هذا التوجه، من خلال انتخاب رئاسة البرلمان، التي أسفرت عن «ترويكا» يتشارك فيها «نداء تونس» مع «النهضة» وحزب «الاتحاد الوطني الحر». وكان هذا التدبير التوافقي، بمثابة تعبير عن امتنان «نداء تونس» لموقف الحركة المنافسة، التي دعت المواطنين إلى «المشاركة المكثفة في الانتخابات والحرص على سلامة العملية الانتخابية، وتأمين نزاهتها وشفافيتها». فضلاً عن ذلك، أظهرت «النهضة» موقفاً يختلف تماماً عن مواقف حلقات «إخوانية» أخرى، عندما حرصت على إيضاح موقفها المتعلق بمواصفات الرئيس المنتخب، ودعت مناصريها وعموم الناخبين إلى اختيار «المرشّح الذي يرونه مناسباً لإنجاح التجربة الديمقراطية، وتحقيق أهداف الثورة». ويخشى المتفائلون أن تعصف جماعات اليسار بهذا الخيار، في حال نجحت في إقصاء القوة الثانية عن المشاركة في الحكم!

هذه البوادر، تنم عن توافق التونسيين على التنافس الديموقراطي في إطار النظام السياسي الذي يتسع للجميع. ففي الانتخابات على موقع النائب الأول لرئيس البرلمان، خسرت أرملة المعارض اليساري محمد البراهمي الذي اغتاله متطرفون، أمام الشيخ «النهضوي» عبدالفتاح مورو، الذي بادر إلى تقبيل رأس السيدة «مباركة عواينية» وسط تصفيق البرلمان. كانت تلك، أشبه بمصالحة لا بد منها، بعد أن كانت «مباركة» أرملة البراهمي، قد اتهمت «النهضة» بالوقوف وراء قتل زوجها. ففي تلك اللقطة، كأنما التونسيون يحسمون أمرهم قائلين إن طريق العنف لا نهاية له، ولا يجرُ سوى المزيد من الآلام وسفك الدماء.

يحلّ باجي قايد السبسي في قصر قرطاج، وهذه لحظة قد هَرِم وهو يتمناها أو ينتظرها، ولا مناص بعدها من حكمة الشيوخ، لأن البديل هو الاضطراب والفتنة. ومثلما قال رئيس حملة حزب «نداء تونس» تعقيباً على فوز مرشح حزبه: «الموقت، انتهى اليوم من دون رجعة.. بعد أن عشنا ثلاث سنوات من الفقر الموقت والإرهاب الموقت»!