حرية التصرف الشخصي بين الدوافع والقانون

إن مسألة الحرية، أو بمعنى أعم «طرق التصرف بالحرية الشخصية» بحث بسيكولوجي علمي بحت، وهي مسألة دقيقة تتوقف عليها سعادة الحياة وشقاؤها.

إن مسألة الحرية، أو بمعنى أعم «طرق التصرف بالحرية الشخصية» بحث بسيكولوجي علمي بحت، وهي مسألة دقيقة تتوقف عليها سعادة الحياة وشقاؤها.

الثلاثاء - 17 يونيو 2014

Tue - 17 Jun 2014



إن مسألة الحرية، أو بمعنى أعم «طرق التصرف بالحرية الشخصية» بحث بسيكولوجي علمي بحت، وهي مسألة دقيقة تتوقف عليها سعادة الحياة وشقاؤها.

هذا الموضوع قد تكلم فيه فلاسفة علم الاجتماع بحديث مستفيض، كلٌ بحسب قناعته الفكرية فقالوا: «إن الفشل والنجاح في الحياة متوقفان على جواب السؤال الآتي: كيف أتصرف باختياري تصرفاً لائقاً صحيحاً؟». فتناوله بعضهم على أساس أنه ثمة «حرية مطلقة» يحرم تحجيمها من قبل المشرع. وتناوله الآخرون على أساس أنه ليس ثمة «حرية مقيدة»، وإنما يُطلب من المشرع جعلها مطلقة، وثمة خلط بين هذه الآراء لدى كثير من الحوارات الثقافية ونقاشات حول هذا الموضوع.

فأول ما يجب ملاحظته هو أننا لا نعمل عملاً إلا وله سبب كاف يقف خلفه والعمل في ميزان واحد، وعلى ذلك يمكننا أن نحلل موضوعنا التحليل الآتي:

1 - يوجد سبب لكل عمل. هذه قضية بديهية حتى إنها لا تحتاج للبرهان. ولا يعمل عملا بدون سبب إلا المجانين، فالسبب ضروري. ومهما كان السبب وجيهاً أو سخيفاً، حقيقياً أو مكذوباً، نافعاً أو ضاراً، مهما كان السبب أو الدافع فإنه يجب أن يكون.

2- السبب الغالب في الاختيار هو الإرادة، أو بمعنى واضح الارتياح للعمل يعجبك عمل وترى أن هناك أسباباً قوية فتعمله. في علم الاقتصاد حل وجيه لهذه النقطة، لأننا نرى العمل والسبب ظاهرين تماماً، فالإنسان بحكم طبيعته في حاجة، فهو يشتغل ليسد تلك الحاجة، سبب وعمل معقولان تماماً، وهذا قانون عام في الطبيعة البشرية. وهذا ركن فقط من أركان حياتنا البيسكولوجية التي هي: «عبارة عن مجموعة رغبات وآمال، وقوى ودوافع، لتحقيق تلك الرغبات والآمال». وفي كل عمل نرى القانون المتقدم صحيحاً - نرى أن الإرادة هي السبب الحقيقي للعمل - الإرادة مجرد الإعجاب، والارتياح والسرور الناشئ من العمل بدون فحص أو تدقيق، الإرادة عمل نفسي اختياري محض.

ولكن هنا قد يرد اعتراض على هذا القانون وهو: أن الإنسان كثيراً ما يعمل أعمالاً لا تكون اللذة والارتياح من البواعث الحقيقية في عملها. وقد تكون اللذة والارتياح ليست مقارنة للعمل، وإنما قد يؤخر القريب، كالتلميذ الذي يؤخذ إلى المدرسة - مثلاً- ويرغم على اتباع قانون لا يرى من نفسه باعثاً على العمل به ولكنه مرغم على العمل به وعدم مخالفته، فماذا يكون؟ القانون طبعاً يتعارض مع حريتنا ومسراتنا التي يمكن أن تنجم عن الحرية المطلقة، فعما قريب سيجد اللذة والارتياح لما هو فيه.

وقل مثل ذلك للذة والارتياح المؤخر البعيد، ويمكن أن يُمثل له بالثواب الذي ينتظر المسلم في الآخرة. فهل يمكن بعد ذلك أن يتناقض قانون الحرية المطلقة مع الإجبار على العمل أو على تركه، لافتقاره المكون الأساسي الدافع إلى العمل «اللذة والارتياح»؟. أو بعبارة أخرى، هل نشأت طاعتنا للقانون من اختيارنا المجرد الحر؟

الجواب نعم. فإن طاعاتنا هنا كأنها من لوازمنا، ومن الأمور الضرورية التي يجب القيام بها.

فالنظرية اختلفت هنا.. قلنا أولاً إن القانون يتعارض مع ارتياحنا لطاعته، ثم قلنا إننا نطيعه بارتياح ولذة، فما سبب ذلك التناقض؟

لا تناقض، لأن حركة الاشمئزاز التي نقابل بها القانون - لو حصل ذلك - تخمد بحركة فكر وتعقل إن لم نطع القانون نطرد من المدرسة.. هذا هو الفكر المتبادر إلى الذهن عند معاكسة القانون، فنرجح طاعتنا للقانون عند معاكسته والطرد من المدرسة. وهذا الترجيح نوع من الاختيار الحر الذي يرافق إرادتنا.

ولما نقول إن الإنسان يباشر أعمالاً لا رغبة له في عملها يجب أن نذكر أن الرغبة محور في الوسط الذي يحيط بنوع العمل ورغبتنا متوقفة على مقدار ما في العمل من الحرية واللذة.

مثال ذلك أننا نستمتع بأموال غيرنا أو حقوقهم، ولكن القيود الطبيعية الفطرية للإرادة والحرية المطلقة حالت دون ذلك. وعلى هذا يمكننا أن نؤكد أن كل الأعمال التي نباشرها أساسها الإرادة واللذة في عملها مع وجود قيود عدة لهذه الحرية، وأن عملية الفحص والاختيار الصحيح ما هي إلا قيد وميزان لتلك الإرادة والحرية.

وإذا كان العقلاء متفقين على أنه يجب أن نراقب إراداتنا ونفحص العمل قبل مباشرته ونسأل أنفسنا هل يليق أن نأتي هذا العمل مع وجود سببه ودواعيه، وأن تكون قوة الأخلاق والمبادئ هي التي تحفظ توازن الإنسان من خلال مباشرته للعمل، وإلا فهو يندفع لكل عمل مهما كانت قيمته من الصلاح والفساد ويعتقد أنه يؤدي أعمالاً لها أسباب، وتسببت عن الناموس الطبيعي وهو مجرد الاختيار، فكيف يُتصور أن ثمة «إرادة أو حرية مطلقة»؟.

وقد اتفق العقلاء على «أن الحكيم من الخلق لا يفعل إلا الصالح والخير، ويجب عليه من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد»، فهل من مقتضيات الصلاح والخير الاستيلاء على أموال كل إنسان تقدر على غصبه، بناء على رغبته وحريته واللذة الحاصلة من ذلك؟ وهل من مقتضيات رعاية مصالح العباد، استهداف المرافق العامة بالتلف والخراب بناء على رغبته وحريته واللذة الحاصلة من ذلك؟

لنفترض أن «السلطة التشريعية» اليوم في أي قطر من أقطار الدنيا أياً كانت سنت قانوناً بالتساوي التام في الخصوصيات والممتلكات، بناء على الرغبة والحرية المطلقة! فأول من يعترض على ذلك أولئك الذين ينادون بـ»الحرية المطلقة»، فيقول قائلهم: «إن الحرية هنا مقيدة» فيقال له: «الذي قيدها هنا، يجعلها مقيدة في سائر المقامات».

وإذا كان الواقع البشري شاهدا على أن حريته وإرادته مقيدة بحسب قدرته، وقدرته متعلقة به، وبكونه مخلوقاً، ولهذا كانت القدرة النافذة شرطا سابقا ومتلازما للحرية المطلقة.

وفي المحصلة نصل إلى نتيجة أن نقول لطالب الحرية: «هل تقصد أن هناك حرية مطلقة، وبالتالي يحرم تحجيمها من قبل المشرع؟ أم إنك تقصد أن هناك حرية مقيدة وتريد من المشرع جعلها مطلقة؟ فإن كان الأول، فممنوع بحسب التحليل الفلسفي والبرهان المنطقي، لأن فيه تجنيا من المشرع على مَن منح له تلك الحرية. كمن مُنح حق «الانتحار».

وإن كان الثاني، ففيه تفصيل. وبعدة اعتبارات، باعتبار المشرع، وباعتبار التدين وعدمه ونحو ذلك، فنجد ما يسمى بـ»قتل الرحمة والمثلية الجنسية» قد منح فيه المشرع «الحرية» في بعض الدول الأوروبية، ومنعتها الأخرى ووصفت تلك «الحرية» بالعبث، مع اتفاقهم في جملة الاعتبارات المشار إليها. فعلى هذا الضوء ينبغي مناقشة موضوع الحرية إذا أردنا الوصول لنتائج مرضية.