مخطوطتان تكشفان تفاصيل جديدة عن سفر برلك
تكشف مخطوطتان تفاصيل جديدة لم تعرف عن كارثة التهجير الجماعي لأهالي المدينة المنورة، ما عرف بـ»سفر برلك» قبل ما يزيد على 90 عاما، وتشير إلى سماح فخر الدين باشا لأسر مدنية بالبقاء في المدينة نظير مكانتها السياسية
تكشف مخطوطتان تفاصيل جديدة لم تعرف عن كارثة التهجير الجماعي لأهالي المدينة المنورة، ما عرف بـ»سفر برلك» قبل ما يزيد على 90 عاما، وتشير إلى سماح فخر الدين باشا لأسر مدنية بالبقاء في المدينة نظير مكانتها السياسية
الأربعاء - 21 مايو 2014
Wed - 21 May 2014
تكشف مخطوطتان تفاصيل جديدة لم تعرف عن كارثة التهجير الجماعي لأهالي المدينة المنورة، ما عرف بـ»سفر برلك» قبل ما يزيد على 90 عاما، وتشير إلى سماح فخر الدين باشا لأسر مدنية بالبقاء في المدينة نظير مكانتها السياسية.
وتعرض المخطوطتان ملامح من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وقبل ذلك السياسية خلال تلك الحقبة المبكرة من تاريخ المدينة المنورة، وهي المرحلة التي ما زالت بعض ملامحها غامضة بسبب صعوبة العثور على وثائق تلك المرحلة، وكذلك عدم توفر مشاريع الترجمة من العثمانية القديمة، التي من شأنها أن تمنح الباحثين فرصة لمعرفة مضامين تلك الوثائق.
سيرة ذاتية ومذكرات خاصة
يقول الباحث الدكتور محمد الدبيسي، الذي عمل على تلك المخطوطتين ضمن دراسة موسعة له ينتظر نشرها قريبا عن «الفنون السَّرديَّة في المدينَةِ المنورة من 1344هـ إلى 1432هـ» إن المخطوطتين عبارة عن سير ذاتية لم تكتمل لكل من الأديبين حمزة بن إبراهيم غوث، وعبيد بن عبدالله مدني، موضحا أن سيرة غوث، التي طبعت مؤخرا، تقدم وصفا عن مسيرة الرحيل إلى دمشق ما يعرف بـ»سفر برلك»، وتداعيات إصراره على مرافقة عائلته، ورفضه منحة خاصة وعده فخري باشا بها.
أما الثانية فهي: مذكرات خاصة، لعبيد بن عبدالله مدني، وهي ضمن التراث المخطوط لمؤلفها، ولم يشأ أبناؤه طباعتها أو نشرها وإشهارها، وإن مكَّنوا بعض الباحثين من الاطلاع عليها، تلبية لرغبتهم في الإفادة منها في دراسة جوانب من شخصية المؤلف، ويروي مدني في مذكراته المتاعب المالية والقسوة التي تعرضت لها أسرة مدني رغم ما كانت تحظى به من مكانة اجتماعية، حيث لم ترحل الأسرة لوضعها الاجتماعي والاقتصادي خلال حقبة التهجير لأهل المدينة كما يشير صاحب المذكرات.
الارتباط بفخري باشا
يذكر المعدُّ لسيرة حمزة غوث إتقان والده اللغة التركية ونشاطه في خدمة الشأن العام، منذ فترة حكم المحافظ العربي على باشا الركابي، الذي تعيَّن في عهده عضوا فاعلا في فرع جمعية الاتحاد والترقي بالمدينة المنورة، بعد استيلاء كيانها المركزي على مقاليد الحكم في الأستانة عاصمة دولة الخلافة.
وكانت فترة عهد الفريق فخري باشا بالمدينة بداية انخراط السيد حمزة في خدمة المدينة بشكل أكثر أهمية، فقد أسند إليه فخري باشا مهمة تأسيس جريدة الحجاز، ورئاسة بلدية المدينة بالإنابة، وقويت الصلة بينهما.
انتفاضة ضد المحافظ
وفي أواخر العهد العثماني بدأت انتفاضة أهل المدينة ضد المحافظ التركي، وأبدوا عدم الرضى من محاولة ذلك المحافظ فرض الضرائب عليهم، يقول حمزة غوث: «فذهبنا نحن الشباب وعلى قلب رجل واحد إلى كبارنا، عرضنا عليهم الأمر، وطلبنا أن يتقدمونا في مسيرة تبدأ من الحرم النبوي إلى مقر الحاكم، وإلا فإننا، أي الشباب، سوف نمضي قدما دون قيادتهم، فأجابونا بأنهم لن يتخلوا عنا في خدمة المدينة، وأنهم سوف يسيرون أمامنا، وفعلا ساروا أمامنا في تلك المسيرة وحدث ما حدث.
جريدة الحجاز
وعن رئاسته لتحرير جريدة الحجاز، يقول حمزة غوث: «أمر أنور باشا الفريق فخري باشا، الذي كان حاكما للمدينة المنورة، ومعروفا ببأسه وشدته، بإصدار جريدة رسمية بالمدينة تحمل القرارات والأخبار والمقالات التي تظهر وجهة نظر الدولة، وكلَّف كبار رجاله باختيار الأشخاص المناسبين لإدارتها وتحريرها، والاستفادة من المطبعة التي أحضرها الأمير شكيب أرسلان ورفاقه للجامعة الإسلامية، التي يقترحون إنشاءها، وشُكِّلت هيئة تحرير الجريدة برئاسة السيد حمزة غوث، ويشارك فيها بدر الدين النعساني، حيث كان المحرك الحقيقي للجريدة، والشيخ عبدالقادر الشلبي الطرابلسي، والشيخ محمد العمري، وصدرت أعدادها الأولى تحمل مقالات نارية ضد حكم أمير مكة المكرمة آنذاك الشريف الحسين بن علي، واستمرت مدة طويلة.
المطبعة خاصة بالجامعة الإسلامية
ويبرز هذا المقطع من السيرة كما ذهب الدبيسي توثيقا لجزء من التاريخ الثقافي للمدينة المنورة، وتصحيحا لتفاصيل يتداولها الدارسون عن حقيقة إنشاء هذه الجريدة، ومن ذلك أن المطبعة الخاصة بالجريدة، لم تجلب من دمشق لطباعة جريدة الحجاز، وإنما كانت في الأصل مطبعة للجامعة الإسلامية، التي كان العثمانيون قد بدؤوا في إنشاء الطابق الأول منها في حي العنبرية بالمدينة المنورة.
كما يكشف حمزة غوث في هذا السياق، عن دور العالم المدني عبدالقادر الشلبي، والشاعر محمد العمري، في هيئة تحرير الجريدة، ولم يكن دارسو حركة الصحافة بالمدينة المنورة قد أشاروا من قبل إلى دور هذين الرجلين في ذلك الأمر.
غوث يرفض المنحة ويغادر
ولم يكن حال حمزة غوث السياسي والوجيه المدني، كحال بقية السكان المدنيين الذين أُجبروا على الرحيل من المدينة إبان الحرب العالمية الأولى، وحلول النزاع بين العثمانيين والأشراف، حيث كان لرحيله وضع مختلف عن أولئك، تقديرا لمكانته السياسية والاجتماعية، يقول: «استدعاني فخري باشا مجددا إلى مكتبه وقال لي: (.. يمكنك أن ترسل عائلتك إلى دمشق، وتبقى أنت وحدك معي في المدينة، وسأمنحك رتبة ضابط في الجيش...) فقلت له إن الأحوال هنا وفي دمشق واحدة، وكما تعلم فأنا لا يمكنني في مثل هذه الظروف ترحيل عائلتي والبقاء هنا، وفعلا سافرت في اليوم الثاني بعائلتي بالقطار من المدينة تحت تهديد نسف الخط الحديدي على طول مساره، وبخاصة من تبوك إلى دمشق، وبالتالي احتجاز بعض قاطراته من قبل الإنجليز وقوات الشريف».
ويوالي غوث وصف مسيرة الرحيل إلى دمشق وتداعيات إصراره على مرافقة عائلته، ورفضه منحة خاصة وعده فخري باشا بها، وإن لم يكن أثر رحلة التهجير عليه، كأثرها على بقية المدنيين نظرا لمكانته السياسية.
علاقات غوث ومسؤولياته
ثم يتابع غوث تقديم صورة موجزة عن علاقته بالأشراف بالمدينة المنورة، في فترة حكمهم لها، ثم علاقته بالملك عبدالعزيز بعد انضمام المدينة المنورة للحكم السعودي، والمسؤوليات التي تولاها والمهام التي كلّف بها في عهد الملك عبدالعزيز، والملك سعود، ومنها حوارات سياسية بينه وبين الملك عبد العزيز، يقدمها غوث بتفاصيلها وبصيغة حوارية، يكشف فيها جانبا من مراحل سياسية مهمة في سيرة حياته، وكذلك رؤية الملك تجاه تلك الأحداث والمواقف، مثل تعيينه سفيرا للمملكة في إيران، كما يعرض غوث مواقف أخرى له إبان عمله السياسي، مع زعماء وساسة مثل الملك سعود وشاه إيران.
وكشأن عزيز ضياء، من كتّاب السيرة الذاتية المدنيين، فقد واكب غوث رحلة تهجير أهل المدينة إلى الشام، مع الفارق الكبير في المرحلة العمرية التي كان فيها كل منهما، والظروف الأسرية المحيطة به، والموقع الاجتماعي له، وبفارق كبير كذلك في استيعاب هذه المرحلة التحولية في تاريخ المدينة الطاهرة وأهلها، وتدوين تفاصيلها.
ومن ثم فإن المخطوط (رجال من المدينة المنورة السيد حمزة بن إبراهيم غوث، سيرة ذاتية)، كتاب حفل بجوانب من السيرة الذاتية لغوث، حرص معدُّه على إبراز شخصية والده، وتوثيق جميع مراحلها، وكانت سيرة ذلك الوالد، أحد موضوعات الكتاب، الذي لم يكن خالصا لها، أو مقصورا عليها.
مذكرات خاصة عبيد مدني
يشير الدكتور إبراهيم المطوع، الذي اطَّلع على هذه المذكرات، بحسب الدبيسي، إلى أنها «كتبت في الفترة ما بين عامي 1384، 1395هـ.
وتتألف من قسمين: الأول جمع فيه الشاعر ما كتب عنه في الصحف والمجلات من مقابلات وأخبار ومراسلات، وما نظمه فيه بعض أقرانه من مدائح وإخوانيات، أما القسم الثاني: فهو «عبارة عن تفصيلات وإيضاحات مقتضبة عن حياته منذ ولادته، سجَّل فيها الشاعر تفاصيل حياته ونشأته، والمصاعب التي واجهته بعد وفاة والده، وإنتاجه الثقافي».
المدينة تخلو من سكانها
وفي غمار المحنة التي تعرض لها أهل المدينة، «تهجيرهم إلى الشام وتركيا»، كانت أسرة المدني من الأسر التي بقيت في المدينة المنورة، ولم تُرحَّل نظرا لوضعها الاجتماعي والاقتصادي، وقد عرض الكاتب إلى ذلك بقوله: «وبقينا في البيت إلى أن خلت المدينة من سكانها، أو كادت، ولاقينا متاعب مالية عنيفة استمرت حتى بعد عودة الوصي علينا من دمشق، وأعتقد أن في الإشارة إلى عنف ما كنا نقاسيه من متاعب غنى عن تفصيلها، وعلى الرغم من ذلك كانت الوالدة حريصة على الاحتفاظ بمظاهرها الخارجية، وإحاطتها بضروب من الوجاهة وحسن البروز، على نقيض الواقع الذي كنا نحياه، كان بيتنا مفتوحا للزوار، ومجالسنا حافلة بكل ما تطلبه مجالس الأثرياء الموسرين، ولا تتأخر عن المآدب عند كل مناسبة تدعو إليها، ولذلك ظن الكثيرون أننا نغرف من بحر لا ينضب»، وهو بذلك يؤكد المستوى المعيشي للأسرة، في مجتمع المدينة، وحرص والدته على استمرار الصورة الذهنية التي عهدها المجتمع المدني عن أسرة الكاتب.
قيمة رمزية
وقد احتل العالم المدني محمد الطيب الأنصاري مكانة كبيرة في نفس تلميذه عبيد مدني، وأشار الكاتب إلى العناية التي أولاه إياها أستاذه، منوها بسعة علمه وكثرة اطلاعه، ويشير عبيد مدني إلى وضعه المادي والاجتماعي، وهو محسوب من طبقة الأثرياء والموسرين بالمدينة، فيقول: «بحسب كثير من الناس وفيهم الأصدقاء، بل أكثرية الأقارب والأصهار أنني كنت أعيش في سعة، وأن طريقي منذ خطوت مفروشة بالورود والأزهار«.
وأكد الدبيسي أن إشارته إلى هذين العملين السيريين المخطوطين، تعود إلى القيمة الرمزية لصاحبيهما في تاريخ المدينة المنورة الثقافي والاجتماعي، ولحساسية المرحلة التاريخية التي عاشا بها والظروف السياسية المصاحبة، وكان قد ضمَّن المخطوطتين رسالته التي نال بها درجة الدكتوراه في الأدب من الجامعة الإسلامية عن «الفنُون السَّرديَّة في المدينَةِ المنورة من 1344هـ إلى 1432هـ» وأشرف عليها الدكتور محمد بن هادي المباركي.