الأسكوبيان الشعر والموقف

يُشار إلى الشاعر الخطيب إبراهيم بن حسن الأسكوبي (1264-1331هـ) بوصفه من ألمع شعراء الحجاز في تلك الحقبة، ورث عن والده الإمامة والخطابة في المسجد النبوي الشريف، وتلقى العلم في أروقته، فبرع وبزَّ أقرانه علماً وفقهاً في فنون ومعارف شتى

يُشار إلى الشاعر الخطيب إبراهيم بن حسن الأسكوبي (1264-1331هـ) بوصفه من ألمع شعراء الحجاز في تلك الحقبة، ورث عن والده الإمامة والخطابة في المسجد النبوي الشريف، وتلقى العلم في أروقته، فبرع وبزَّ أقرانه علماً وفقهاً في فنون ومعارف شتى

الخميس - 24 أبريل 2014

Thu - 24 Apr 2014



يُشار إلى الشاعر الخطيب إبراهيم بن حسن الأسكوبي (1264-1331هـ) بوصفه من ألمع شعراء الحجاز في تلك الحقبة، ورث عن والده الإمامة والخطابة في المسجد النبوي الشريف، وتلقى العلم في أروقته، فبرع وبزَّ أقرانه علماً وفقهاً في فنون ومعارف شتى. وعندما تجاوز عمره ثلاثين عاماً ،جلس للتدريس في المسجد النبوي فدرَّس (الفقه، والحديث، والتفسير، والمنطق، والأدب). وكان يجمع في تكوينه الشخصي وقار عالم الدين وسمته وتقاه، وروح الفنان/الشاعر ورؤاه. وكان محط إعجاب وإشادة أدباء عصره، ومن جاء بعدهم، من أمثال: محمد سعيد العامودي، وعبدالقدوس الأنصاري، وعبدالله عبدالجبار. ولا غرو أن عينا ناقدة كعين الأخير، لم يكن ليملأها شيء يسير، فيما لو رأت في الأسكوبي ما لا يستحق أن يُذكر. ولا سيما وقد أشاد بتنوع معارفه، ودأبه على القراءة وإعجابه بشوقي، وبسليمان البستاني. وكان إمام المسجد النبوي الشريف شاعراً غَزِلاً ومداحاً ووصافاً، متوقد الذهن، متجدد الرؤى. وفي العقد الأخير من حياته كانت المدينة المنورة تموج بحركات ثورية ضد العثمانيين، فاستجاب الأسكوبي وتفاعل مع ذلك الحراك، وكان لسانه المعبر، فأنذر العثمانيين وهو في حاضرتهم الأستانة. غير آبهٍ بما ستجره عليه تلك القصيدة الشهيرة من ويلات السجن وعذاباته، وكان أن ذاعت القصيدة واشتهرت كما لم يشتهر أي من شعر الأسكوبي ،فاعتقل وسُجن وأوذي بسببها. كان إمام المسجد النبوي، قريباً من الناس، معبراً عن أوجاعهم ،وكان ضميرهم الذي افتدى حريتهم وخلاصهم بحريته الشخصية. ولم يكن بمعزل عن عامتهم؛ ممن يؤملون من مكانته الدينية والعلمية وموقعه الوظيفي؛ مشاركتهم في أزماتهم ومعاناتهم، ونهوضاً بتطلعاتهم للحرية والخلاص. ولم يمنعه من ذلك موقف بعض المدنيين من والده/حسن بن حسين الأسكوبي، إمام وخطيب المسجد النبوي في أواخر القرن الثالث عشر الهجري. وهو موقف لم يورث في الابن إبراهيم، حسرة ونقمة مما فعله أولئك في والد شاعرنا. فلم يأخذ عامتهم بجناية خاصتهم، وتسامى على أوجاعه وذكرى مآل والده الموجع. ولذلك الموقف قصة وتفصيل؛ وهو أن الشيخ حسن الأسكوبي إمام المسجد النبوي وأحد علمائه الأفذاذ المستنيرين قد سافر إلى أوروبا. وأدرك عناية الأوربيين بالعلوم العصرية آنذاك، فاستحسن من ذلك المراصد الفلكية، وكانت في ذلك الوقت من مستحدثات الأمور وغرائب الصناعة في الحجاز. فاستورد مرصداً فلكياً، ولو علم ما سيجره عليه ذلك من تبعات، ما فعل. ولكنه كان عن علم ما في غدٍ عمي. وما علم أن المستحدث الغريب في بيئته المدينية، قد يكون مرذولاً ومستهجناً منكراً من لدن فئة قليلة، خالفت نواميس مجتمع أُشرب منذ طفولته قيم احتواء الوافد والغريب من الناس والأشياء، مجتمع كرع من معين الحضارات ما يخوِّل لنا القول بأن ما أنكرته تلك الفئة هو المنكر بعينه. أما الشيخ حسن، فقد أقام مرصده في سطح منزله، وأخذ يمارس هوايته وخبرته في رصد حركة الأفلاك، وما إلى ذلك من وظائف وأحوال. فتداعت فئة -زعمت أن ذلك (تشبُّه بالنصارى) -إلى الإنكار عليه، وتبكيته، وكان من بينهم شاعر عُرف بدوره الأدبي، ونبوغه الشعري. وهو الشيخ عبدالجليل براده، صاحب الندوة الأدبية ذائعة الصيت، في التاريخ الأدبي في المدينة المنورة. ومثال المفارقة بين الشعر وبين الوعي هنا. حيث عرَّض البراده بحسن الأسكوبي وهجاه، في أرجوزة مستكرهة المعنى .تدعو إلى الدَّعة والامتثال لما ألِفَه الناس، وتستعدي على أي اتجاه يروم الابتكار والإبداع وتطوير القدرات وخدمة المجتمع، والإفادة من مستجدات الحضارة ومنجزاتها. وكان الشيخ حسن على قناعة راسخة وإيمان عميق بما يفعله، وكان يملك من أدوات الأديب وقدرة الشاعر ما يقوض دعوى البراده، ويكشف منافاتها لصحيح الدين ومقاصده، ومستقرات العرف وقواعده، فأنشأ أرجوزة يرد بها على البراده. ويكشف تهافت دعواه.

وهكذا كانت سعة أفق الشاعر المُجيد والعالم الجليل. أوعى من مناوئيه. مجاوزاً فهمهم القاصر، ووعيهم المحدود. ولهذا الموقف مشابهات في ذلك العصر وما تلاه.. من نبذ الجديد، والفكر الامتثالي الراسخ، الرافض للمستحدث. أما حسن الأسكوبي، فلم تغير قصيدته من الموقف شيئاً. وكان قدَرُه كقدر غيره من التواقين إلى التحديث والداعين إليه، والباحثين عن آفاق جديدة، ومنجزات يوظفونها لخدمة الحياة والإنسان.حيث اُقتحم داره، وأُنزل المرصد من سطح منزله، وأُسيء إلى فكره ومكانته، فأورث ذلك في نفسه حسرة وألما، فاكتأب واعتزل الناس في منزله، وأصابته نوبة أودت بحياته. وسُجِّل باسمه أول منجز حضاري يصل الحجاز في حقبة القرن الثالث عشر الهجري، مثلما سُجِّل في مدونة نسبه ابنه الشاعر إبراهيم الأسكوبي. والمتأمل لموقف الوالـد والـولد رحمهما الله تعالى، يتجلى له الإيمان بالمبدأ. وعدم التنازل عن الموقف. وتحمل المكابدات لأجله.كما يسجَّل لهما ما يعلي مقامهما وذكرهما السَّني في مدونة تاريخ المدينة المنورة، فكرياً وأدبياً واجتماعياً.