حسين باصي

حصن المرونة الطاقوية لمشاريع الرؤية

الاثنين - 15 ديسمبر 2025

Mon - 15 Dec 2025



في بلد بحجم قارة مثل المملكة العربية السعودية، بتضاريسها المتنوعة ومساحاتها الشاسعة، ومع انطلاق مشاريع سياحية وتنموية طموحة في جزر منتشرة بالبحر الأحمر، ومناطق جبلية، ومناطق صحراوية بكر، يصبح الاعتماد الحصري على تمديد خطوط الشبكة الوطنية المركزية لتغذية هذه المواقع تحديا لوجستيا واقتصاديا، وأحيانا بيئيا. هنا يبرز الحل الهندسي المبتكر المتمثل في الشبكات المصغرة (Microgrids)، كركيزة أساسية لضمان موثوقية واستقلالية وكفاءة الطاقة في هذه المواقع الحيوية. الشبكة المصغرة في المفهوم الحديث ليست مجرد مولد احتياطي للطوارئ، بل هي نظام طاقوي متكامل، وذكاء محلي مستقل قادر على توليد وتوزيع وتخزين وإدارة الطاقة داخل نطاق جغرافي محدد بكفاءة عالية.

تتجلى أهمية هذه التقنية وتطبيقاتها العملية في مشاريع وطنية عملاقة مثل مشروع البحر الأحمر وأمالا، التي تهدف إلى تحقيق إنجاز عالمي بالاعتماد الكامل على الطاقة المتجددة بنسبة 100% على مدار 24 ساعة. في هذه المشاريع الريادية، تعمل الشبكات المصغرة كأنظمة مستقلة تماما عن الشبكة الوطنية، وهو ما يعرف هندسيا بـ«وضع الجزيرة» (Islanded Mode). تعتمد هذه الشبكات المتطورة على مزيج هجين ذكي يجمع بين الألواح الشمسية لتوليد الطاقة نهارا، وتوربينات الرياح للاستفادة من التيارات الهوائية، وأنظمة تخزين طاقة البطاريات العملاقة (Battery Energy Storage Systems - BESS) التي تعتبر الأكبر من نوعها في العالم. يقوم نظام إدارة الطاقة الذكي بالموازنة اللحظية بين العرض والطلب؛ فيخزن الفائض الشمسي نهارا في البطاريات ليتم استخدامه ليلا، ويشغل المولدات الحيوية عند الحاجة القصوى فقط وبشكل محدود، مما يضمن استمرارية الخدمة بنسبة 100% دون انقطاع، وبصفر انبعاثات كربونية، محافظا على البيئة البكر لتلك المناطق.

أما في سياق الأمن الصناعي والعسكري وحماية المنشآت الحساسة، توفر الشبكات المصغرة طبقة حماية إضافية للبنية التحتية الحيوية للمملكة. ففي حال حدوث أي عطل كبير وغير متوقع في الشبكة الرئيسية نتيجة ظروف جوية قاسية أو أسباب تقنية، تستطيع الشبكة المصغرة في منشأة حساسة (مثل مستشفى كبير، أو قاعدة عسكرية، أو مجمع صناعي للبتروكيماويات) أن تفصل نفسها آليا وفي جزء من الثانية عن الشبكة الأم، وتعتمد فورا على مواردها الذاتية لتشغيل الأحمال الحرجة، مما يضمن استمرارية الأعمال والحفاظ على الأرواح والممتلكات والإنتاج. هذه المرونة العالية (Resilience) هي ما يجعل الشبكات المصغرة جزءا لا يتجزأ من استراتيجية أمن الطاقة الوطني.

اقتصاديا، تساهم الشبكات المصغرة في تقليل الفاقد الكهربائي الناتج عن نقل الطاقة لمسافات طويلة عبر خطوط الضغط العالي، كما تقلل من الحاجة لاستثمارات ضخمة في توسيع البنية التحتية للشبكة للوصول إلى كل نقطة نائية. إن تبني المملكة لهذه التقنية المتقدمة وتطبيقها على نطاق واسع في مشاريعها الجديدة يعكس التزاما بالابتكار الهندسي، ويحول التحديات الجغرافية إلى فرص لتطبيق أحدث حلول الطاقة المستدامة واللامركزية، جاعلا من مشاريعنا نماذج عالمية يحتذى بها في الاستقلال الطاقوي والكفاءة التشغيلية.