شاهر النهاري

الفاشر.. وما خفي يظل أعظم وأكثر عجبا!

الأحد - 14 ديسمبر 2025

Sun - 14 Dec 2025



مثلت الحرب السودانية تراكما تاريخيا من الشروخ العقدية والعسكرية والسياسية، والانهيار الوطني المصاحب لتدخلات خارجية تستغل الفجوات، لتنثر أشلاء البلاد.

فمنذ انقسام السلاح فيها بين جيش ودعم سريع، توغل الصراع بشين النوايا، وفعل ما لا يفعله أبناء وطن، بسيادة القتل والاغتصاب، وتحويل المدن إلى أطلال، والناس إلى أرقام قتلى ومهجرين، والخراب إلى لغة يومية لا تحتاج إلى ترجمان.

وكانت مدينة الفاشر، كما غيرها، شاهدة على أفظع ما يمكن للإنسان أن يصنعه من شرور حين يموت الضمير ويغيب الرادع.

مدينة كانت سوقا نابضا، وروحا دارفورية عريقة، ذبحتها فظائع مرتزقة وعملاء تفوق كل التخيلات.

القتل الجماعي، العنف الجنسي الممنهج، المقابر الجماعية، حرق الجثامين... مشاهد لا تحتاج إلى شعراء لتصويرها، لأن صور الأقمار الصناعية نفسها كانت الشاهدة على دم مسفوك، بأطماع السيطرة ونهب الخيرات والموانئ والمعادن الثمينة.

ومع تفاقم المأساة، أدرك العالم أن ما يحدث لم يعد نزاعا محليا، بل سياسيا خارجيا متداخلا، وكارثة إنسانية يعجز ضمير التاريخ عن محوها.

سودان اليوم يعيش أسوأ أزمات إنسانية في العالم: ثلاثون مليون إنسان ينتظرون لقمة أو دواء، اثنا عشر مليونا نزحوا، وخمسة ملايين فروا خارج الحدود.

وتلك مأساة كان لا بد أن تحرك الضمير العالمي ولو بعد حين.

الجارة السعودية لم تصمت منذ بدء شرارة الأزمة، فقدمت الكثير من مبادرات السلام، والتحركات الجادة نحو الحل، وعقدت كثيرا من المبادرات والتفاهمات تحاول إعادة ترتيب مسرح الفوضى، وتقوية خطوط إنسانية تسمح بمرور الإغاثة وإنقاذ ما بقي من أرواح، وكشف المرتزقة ومن يدفعهم لذلك.

دور سعودي كان الأقرب والأكثر قبولا لدى مختلف الأطراف المتنازعة لعدم انحيازه، وكان هدفه الأول والأهم سلام السودان واستقراره واستقلاله.

وأثناء زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للبيت الأبيض أقنع الرئيس ترامب بضرورة مشاركة الدولة الأمريكية في تحقيق بلوغ الحل النهائي، وجمع الأطراف، وإيقاف إطلاق النار، وضمان حماية المدنيين.

ونتيجة لهذا السياق، برز ضمير دولي شجاع يحاول المشاركة الشريفة، فظهرت التحركات السياسية البريطانية الأخيرة، التي قامت فيها بفرض عقوبات على عدد من قيادات الدعم السريع المتهمين بارتكاب أبشع الجرائم.

تحرك عظيم حمل رسالة مفادها أن العالم الغربي بدأ التحرك الحثيث لمنع الإفلات من العقاب، وأن الصمت لم يعد خيارا متاحا، وأنه لا بد من التعاون لوضع الحلول لما يجري في السودان بوصفه وصمة عار أخلاقية على جبين المجتمع الدولي.

وحقيقة أن سودان اليوم المذبوح يحتاج إلى ما هو أبعد من وقف إطلاق النار والعقوبات؛ يحتاج إلى مشروع وطني جديد، وإلى مجتمع دولي فعال لا يكتفي بالبكاء على الأطلال، بل يساهم في الحماية وإعادة البناء، ومنع المغرضين الطامعين في جعل أرض السودان وشواطئه مرتعا للنهب والفوضى المؤدية للسيطرة على كل موارده.

وكم نتمنى أن تشارك بقية الدول العظمى ما فعلته السعودية وأمريكا وبريطانيا.

فالدم السوداني أغلى من أن يترك لعبة تتقاذفها الدسائس والميليشيات، وأثمن من أن يبقى رهينة صراعات خارجية لا تشبه الوطن السوداني، الذي يريد أهله الحياة... لا الموت.