عبدالله فدعق

اليوم الدولي لمكافحة الفساد والسياق المحلي

الأحد - 14 ديسمبر 2025

Sun - 14 Dec 2025

ينظر إلى "الفساد"، بغض النظر عن أنواعه، بوصفه ظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية معقدة، لا تستثني بلدا ولا نظاما؛ فهو يضرب في عمق المؤسسات، ويشوه إيجابياتها، ويضعف سيادة القانون، ويحول بعض الأطر البيروقراطية إلى بيئات طاردة لا وظيفة لها سوى إنتاج التعطيل، وفتح أبواب الخيانة.
هذا الإدراك العالمي لخطر الفساد قاد المجتمع الدولي إلى اعتماد اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد عام 2003، لتكون الإطار الأوسع لتنظيم الجهود الدولية في هذا المجال، ومع دخول الاتفاقية حيز النفاذ عام 2005، وانضمام نحو 200 دولة إلى التزاماتها، أصبح تحسين الحوكمة والمساءلة وتعزيز النزاهة بندا ثابتا على أجندة الدول، لا ترفا تشريعيا، وبموجب ذلك صار يوم "9 ديسمبر" من كل عام، يوما دوليا لمكافحة الفساد؛ من أجل إذكاء الوعي بهذه الظاهرة البغيضة.
قيمة "اليوم الدولي لمكافحة الفساد"، والذي صادف الثلاثاء الماضي؛ لا تقاس بعدد البيانات الصادرة والشعارات المتداولة، بل بقدرة الدول على تحويل رسالته من "مناسبة أممية" إلى "مشروع وطني مستمر"، يتجلى في الأنظمة، والسياسات، وسلوك الأفراد والمؤسسات، خاصة أن الفساد، في جوهره، ليس مجرد انتهاك لنص نظامي أو تعد على مال عام، بل هو خلل في إدارة الثروة والسلطة، وتهديد مباشر للعدالة الاجتماعية، وتقويض تدريجي لثقة المواطن في مؤسسات دولته.
من منظور إسلامي، تأتي مكافحة الفساد امتدادا طبيعيا لأصل شرعي راسخ؛ فالأمانة في المال والوظيفة أصل من أصول الدين، وليست خيارا أخلاقيا تجميليا، والنصوص المحذرة من الغلول، ومن استغلال المنصب، ومن خيانة الثقة، إنما تحمي كيان المجتمع قبل أن تحمي سمعة الأفراد؛ إذ لا يمكن لمجتمع أن يطمئن إلى مستقبله ما دامت ثرواته مهددة بسوء الإدارة أو عبث المنتفعين، وحين يستحضر هذا المعنى في إدارة المال العام، يصبح الوضوح في الأنظمة، والصرامة في المحاسبة، والقدوة في السلوك، جزءا من التدين العملي لا مجرد إجراءات إدارية.
في السياق المحلي، وتحديدا منذ إنشاء "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد" عام 1432، ثم إعلان تشكيل "لجنة عليا" لحصر قضايا الفساد العام، عام 1439/2017، برئاسة سيدي ولي العهد، ثم ضم "هيئة الرقابة والتحقيق" والمباحث الإدارية" إلى "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد" وتعديل اسمها ليكون "هيئة الرقابة ومكافحة الفساد"، عام 1441؛ لم يعد الحديث عن مكافحة الفساد مقتصرا على العناوين العامة، بل أصبح جزءا من بنية رؤية 2030 التي ربطت بين كفاءة الإنفاق وجودة الحياة وجاذبية الاستثمار من جهة، وبين نزاهة المنظومة المالية والإدارية من جهة أخرى، وأدرك الناس أن الدولة التي تستثمر في مشروعات كبرى، وتفتح آفاقا جديدة أمام القطاع الخاص، وتستهدف تنويع الاقتصاد، تدرك أن أي تهاون مع الفساد يعني خصما مباشرا من رصيد التنمية، وتشويها لصورة البيئة الاستثمارية أمام الداخل والخارج، ومن هنا جاءت قوة الرسالة العملية في تمكين الجهات المعنية بالنزاهة والرقابة من أداء دورها، وإعلان نتائج أعمالها بشفافية، وإيصال رسالة واضحة مفادها أن استغلال المنصب أو العبث بالمال العام لم يعد أمرا يتجاوز، بل خطا أحمر يمس الثقة بين القيادة والمجتمع، ويستوجب المساءلة أيا كان موقع المتجاوز.
أختم بأن التجارب الرصينة أثبتت أن النجاح في مكافحة الفساد لا يتحقق بالعقوبة وحدها، مهما كانت رادعة، بل يحتاج إلى منظومة متكاملة تجعل الفساد خيارا صعبا، والنزاهة مسارا طبيعيا، ويبقى بعد ذلك البعد الثقافي، الذي يجعل من النزاهة "ثقافة مجتمع"، لا مجرد مطلب جهة رقابية؛ و"اليوم الدولي لمكافحة الفساد" فرصة حقيقية لقراءة التجربة الوطنية السعودية بوصفها مشروعا متدرجا لبناء منظومة "نزاهة" راسخة، تتكامل فيها الأنظمة مع الرقابة، والتربية مع الوعي العام.