محمد عبود الدوسري

التقاضي الالكتروني في السعودية: عدالة رقمية تواكب رؤية 2030

الاثنين - 08 ديسمبر 2025

Mon - 08 Dec 2025


شهد القطاع العدلي في المملكة العربية السعودية تحولا نوعيا باتجاه تطبيق العدالة الرقمية، حيث أصبح التقاضي الالكتروني واقعا نعيشه لا مجرد مشروع مستقبلي. ويأتي هذا التطور انسجاما مع رؤية المملكة 2030 التي تهدف إلى تعزيز الكفاءة، والشفافية، وسرعة الإنجاز، وتقليل الإجراءات التقليدية التي كانت تستنزف وقت المتقاضين وجهدهم. كل ذلك طبعا دون الإخلال بضمانات التقاضي وحقوق الأطراف.

فقد أدركت المملكة مبكرا أهمية دمج التقنية في العمليات القضائية لما تحققه من مكاسب عملية وعدلية، فأسست بنية رقمية متقدمة مكنت المحاكم من إدارة جميع مراحل التقاضي الكترونيا، بدءا من قيد الدعوى وتقديم المذكرات وطلبات الاستئناف، وصولا إلى إصدار الأحكام وتنفيذها عبر منصات عدلية محكمة وآمنة.

وقد ساهم هذا التحول في كسر العوائق التقليدية المرتبطة بزمن التقاضي وطول المواعيد، ليصبح القضاء أكثر مرونة وقابلية للوصول في أي وقت ومن أي مكان داخل المملكة أو خارجها دون الحاجة للحضور الشخصي للمحاكم إلا في نطاق ضيق.

يعد هذا التحول نموذجيا في تعزيز الوصول إلى العدالة وتحقيق مبدأ القضاء الميسر، خصوصا للنساء، وكبار السن، وذوي الإعاقة، والمقيمين في مناطق بعيدة عن المحاكم المختصة.

أسهمت منصات وزارة العدل، وفي مقدمتها (بوابة ناجز)، في توحيد الإجراءات العدلية وتسهيلها، مما مكن المتقاضين من متابعة قضاياهم في أي وقت ومن أي مكان عبر الحاسوب أو الهواتف الذكية. كما أتاحت الخدمات المساندة مثل التوثيق الالكتروني، التبليغ الرقمي، إصدار وكالة، الاعتراض الالكتروني، والربط المباشر مع الجهات الحكومية ذات العلاقة، مما جعل دورة الدعوى القضائية أكثر سرعة ووضوحا وخالية تقريبا من التعامل الورقي. حيث أسس النظام العدلي السعودي لهذا المسار عبر قرارات وتعديلات تنظيمية واضحة، من أهمها اعتماد المحاكم للجلسات المرئية، وتفعيل الهوية الرقمية، والمستندات والصكوك الرقمية.

من أبرز المزايا التي قدمتها العدالة الرقمية هو فك الارتباط المكاني والزماني ببيئة المحاكم، حيث لم يعد حضور المتقاضين أو المحامين شخصيا شرطا أساسيا لتنفيذ معظم الإجراءات العدلية، والذي ساعد بدوره في تقليل الضغط على المرافق العدلية والموظفين. حيث أصبح بإمكان أي شخص داخل المملكة، وحتى المقيمين خارجها، متابعة دعواه، إرسال مستنداته، أو حضور جلساته بالصوت والصورة دون أن يفقد الميزة القانونية لمبدأ المواجهة والعلنية.

أما على صعيد سرعة الفصل في القضايا، فقد أسهمت المنصات العدلية في اختصار مدة الجلسات وتقليل التأجيلات الناتجة عن غياب الأطراف أو صعوبة حضورهم بسبب الظروف أو المسافات البعيدة. إضافة إلى تقليل الجهد والتكاليف المباشرة وغير المباشرة على جميع أطراف العملية القضائية.

ولأن نجاح التقاضي الالكتروني لا يقوم فقط على توفير الخدمات، بل على ضمان أمن المعلومات وسرية البيانات وصحة الإثبات الرقمي، اعتمدت المملكة منظومة صارمة في هذا الجانب، من خلال التحقق الثنائي، الربط الالكتروني مع الجهات الحكومية وغير الحكومية عبر منصة نفاذ.

في السياق نفسه لم يكن المحامون في السعودية بعيدين عن هذا التحول الرقمي، فمكتب المحاماة اليوم لم يعد يعتمد فقط على خبرته القانونية، بل أصبح مطلوبا منه الإلمام بالتقنيات العدلية، والخدمات الالكترونية. كما أنه أصبح بمقدور المواطن والمقيم توكيل محام بشكل الكتروني.

ورغم النجاحات الكبيرة، يبقى هناك بعض التحديات المهنية والتقنية التي تستدعي متابعة مستمرة لمعالجتها، مثل ضرورة رفع الوعي القانوني الرقمي لدى المتقاضين، وتوفير تدريب متخصص للمحامين والممارسين العدليين لضمان مواكبة التطورات التقنية.

بالمجمل، إن تجربة المملكة تشكل نموذجا إقليميا يحتذى به في تحديث الأنظمة العدلية، وعنوان لنجاح التحول الوطني نحو مستقبل تقني متكامل. فالعدالة الرقمية لم تعد مجرد خيار وإنما مكتسب حضاري يعكس تطور الدولة ومكانتها القانونية والتنظيمية.

إن التقاضي الالكتروني السعودي ليس مجرد تطوير خدمات، بل هو مشروع وطني استراتيجي يعكس رؤية المملكة التي تؤمن بأن العدالة حق وجد لتصل للجميع، وبأن التكنولوجيا شريك أساسي في استدامة الحقوق وترسيخ سيادة القانون. ومن هنا، فإن استمرار التطوير والتثقيف القانوني هو الهدف لضمان مستقبل قضائي الكتروني متفوق يليق بمكانة المملكة وريادتها.

law_mds@