الموظف العالق.. بين الطموح والإحباط!
الخميس - 23 أكتوبر 2025
Thu - 23 Oct 2025
في الممرات الطويلة في المؤسسات، وخلف المكاتب الهادئة، يعيش عدد من الموظفين حالة «تعليق وظيفي» لا ترى بالعين المجردة، لكنها محسوسة في كل تنهيدة، وكل نظرة متعبة، وكل فنجان قهوة لا طعم له. حالة من التيه بين سقف طموحات مرتفع، وأرض واقع لا يتحرك.
هؤلاء ليسوا مهملين ولا فاقدي الشغف، بل على العكس هم أول الواصلين وآخر المغادرين. يملكون أفكارا، ويحملون مقترحات، ويتطلعون إلى أدوار قيادية تبرز قدراتهم. لكنهم يصطدمون بجدار صامت من التجاهل، أو بسقف زجاجي لا يرى ولا يخترق. تكبلهم البيروقراطية حينا، وتقتلهم المجاملات الوظيفية حينا آخر.
حدثني أحد الزملاء يوما، أنه كان من أكثر الموظفين نقاشا وطرحا للأفكار. لم يكن يتحدث من فراغ، بل بدافع الإيمان بالتطوير. لكنه - كما قال - كلما ناقش أو جادل، وضع في موضع المخطئ، أو في أحسن الأحوال يتم تجاهله، وطلب منه أن ينفذ فقط. ومع تكرار التجربة، قرر أن يصمت، لا لقلة الحيلة، بل حفاظا على ما تبقى من شغف. ومنذ ذلك اليوم، صار يؤدي عمله بهدوء، دون رأي، دون مقترح، ودون أثر.
في علم النفس التنظيمي تسمى هذه الحالة بالإحباط الوظيفي المزمن، وهي حالة تتشكل حين يشعر الفرد أن جهوده لا تحدث فرقا، وأن صوته لا يسمع، فيبدأ اللاشعور ببناء جدار حماية داخلي. فبدلا من المواجهة أو النقاش، يلجأ إلى «التكيف السلبي» الذي يجعله يؤدي عمله فقط بما يضمن له البقاء، لا بما يعبر عن طموحه. إنها آلية دفاعية لتجنب الألم النفسي الناتج عن التهميش، لكنها في المقابل تقتل روح الإنجاز ببطء.
الخطير في هذا النمط أنه لا يظهر في التقارير السنوية، ولا يقاس بعدد أيام الإجازة أو ساعات الحضور. إنه شعور داخلي يتسلل بصمت، يحول الحماسة إلى فتور، ويستبدل الإبداع بالتكرار، ويجعل من الموظف الواعد مجرد ترس يدور في آلة لا تتغير.
هل الحل في الرحيل؟ لا ليس كذلك... فالخروج من الوظيفة قد ينهي المشكلة الظاهرة، لكنه لا يعالج الجذر العميق: بيئة العمل التي لا تكافئ، ولا تحتضن، ولا تستمع.
وهنا تأتي مسؤولية القائد؛ القائد الحقيقي الذي يرى في كل موظف طموح مشروعا ناجحا في طور التكوين، لا تهديدا يجب احتواؤه. القائد الذي يطرح السؤال الأهم: لماذا نشعر أن أفضل موظفينا هم الأكثر صمتا مؤخرا؟ ولماذا يغادر أصحاب الكفاءة بصمت، بينما يبقى أصحاب الصوت العالي فقط؟
وقد التقيت بقيادات تحمل هذا الوعي، تمتلك القدرة على اكتشاف مهارات موظفيها ووضعهم في المكان الأنسب لقدراتهم. ويتمثلون سياسة الباب المفتوح.
هذا النوع من القادة لا يكتفي بإدارة العمل، بل يدير الإنسان أولا، ويؤمن أن النجاح المؤسسي يبدأ من التوظيف النفسي السليم للطاقات قبل التوصيف الإداري للمهام. وهي سمة تستحق الإشادة، لأنها تعيد الحياة إلى بيئة العمل، وتحول الطموح الفردي إلى إنجاز جماعي.
في علم النفس القيادي، يؤكد المختصون أن التقدير والاعتراف بالجهد يمثلان حاجة إنسانية أساسية، تأتي بعد الأمن والانتماء مباشرة في هرم ماسلو. وعندما تهمل هذه الحاجة، تتولد مشاعر خفية من الاغتراب الوظيفي، فيشعر الموظف وكأنه غريب في مكان يعرفه جيدا.
رسالتي لكل موظف عالق: لا تفقد نفسك في زحام الانتظار. ابن مهاراتك، وساعد نفسك، واستثمر علاقاتك، وكرر المحاولات بشكل إيجابي وبطرق مختلفة، وإذا لم تجد التقدير في مكانك الحالي، فابحث عنه في مكان يشبهك، تكون فيه قيمة مضافة. فأنت لست عاجزا، بل معطل.
ورسالتي لكل مسؤول: لا تهدر الطاقات في المكاتب الخلفية. قد يكون الموظف الذي لا يجيد الترويج لنفسه هو الأكثر إخلاصا وابتكارا. افتح الباب، واستمع، وستفاجأ بكم من الفرص أضعتها لأنك لم تنصت.
في النهاية، المؤسسات لا تنهض بالأنظمة فقط، بل بالأرواح التي تؤمن برسالتها، وبالقيادات التي تتعامل مع الطموح على أنه طاقة تستثمر لا خطرا يخشى منه.
DrFahadAbd@