عبدالخالق المحمد

(المجمع العقدي الإسلامي) خطوات جريئة نحو وحدة فكرية في مواجهة التحديات

الأربعاء - 08 يناير 2025

Wed - 08 Jan 2025

لقد كان الجدل والصراع كبيرا بين المذاهب الفقهية الأربعة يصل إلى درجة التكفير أحيانا كقول أحد الأحناف "إن أصحاب أحمد يجب أن يُذبحوا" وقول آخر "لو كان لي أمر لأخذت الجزية من الشافعية". وقول بعض الحنابلة "كل من لم يكن حنبليا فليس بمسلم".

وقول بعض الشافعية لأجل فتوى الأحناف في شرب بعض أنواع النبيذ "إذا سقطت قطرة نبيذ على طعام فإنه يلقى لكلب أو حنفي"! ووصل الأمر أيضا إلى أن تقام الصلوات في مكان واحد وزمان واحد ولكل جماعة إمام من مذهبهم! واليوم يجلس أصحاب المذاهب الأربعة على طاولة واحدة ليناقشوا المستجدات ويصدروا الفتاوى المشتركة ولهم مجمع فقهي إسلامي.

وفي هذا الزمان الذي يموج بالناس في بحار لجية، تتقاذفهم فيها أمواج التحديات الفكرية، وتجري بسفنهم رياح الإلحاد والتشكيكات العقدية تظهر الحاجة المسيسة إلى وحدة إسلامية عزيزة نفيسة، تقهر فيها كل نفس خسيسة، أرادت للمسلمين الفرقة، كلما بهر صوت رعد الإسلام واشتهر سيف برقه، وأراد كثير من الناس القرب من باب الإسلام وطرقه، لعلمهم بغيثه المنهمر وسيله الجارف الفياض الذي ليس لهم قبل به ولا اعتراض إن تمسك المسلمون بدينهم دون تفريط وإفراط.

وإني لأرى حاجة ملحة وضرورة قصوى عالية في إنشاء مجمع عقدي إسلامي يجمع العلماء والمفكرين المسلمين المتخصصين في العقيدة من مختلف الطوائف لبحث ونقاش القضايا العقدية الكبرى، وتعزيز القضايا المشتركة بينها، ويسعى فيه هذا المجمع جاهدا نحو حوار علمي راق يعزز التفاهم وينبذ الصراعات التي أنهكت الأمة.

وأول ما يجب فعله من خطوات لإنشاء المجمع العقدي الإسلامي هو صياغة رؤية واضحة، وهي أنه يسعى إلى وحدة فكرية وليس توحيد العقيدة والتنازل عنها وإلغاء المذاهب، والعمل على تعزيز التفاهم العقدي بين المسلمين والعمل على وحدة الأمة الإسلامية من خلال الحوار العلمي البناء. ورسالة واضحة هي الدفاع عن العقيدة الإسلامية ضد الإلحاد والمذاهب الفكرية المعاصرة.

مما سيُعجل بصياغة "ميثاق عقدي" مشترك يحترم التنوع داخل إطار العقيدة الإسلامية ويدير الخلافات العقدية بين مختلف الطوائف. مع التأكيد على التفاهم لا التنازل والنص بوضوح في ميثاق المجمع أن الهدف هو تعزيز الحوار العلمي دون المساس بثوابت العقيدة لكل طائفة ومذهب.

ثم وضع ميثاق عمل مشترك، والاتفاق على قواعد الحوار والبعد عن التكفير والخلافات التاريخية التي للأسف هي الغالب على الساحة العقدية اليوم، في حين أن العدو الغاصب يجري أنهارا من دماء إخواننا المسلمين أو يستعمر أراضيهم، ونحن نتجادل من قتل الحسين؟ وهل استوى حقيقة أو مجازا أو هل فلان شيخ الإسلام؟! وهل نترحم على فلان وفلان...؟ - مع أهمية بعض المباحث في الدرس العقدي - إذ نحن لا نهون من الخلافات التاريخية بل ندعو إلى إعادة تأطير القضايا الخلافية، وتحويل القضايا الخلافية إلى موضوعات دراسية يتم تناولها في سياق تاريخي وأكاديمي وليس كأداة للصراع.

مع التدرج في معالجة الخلافات وبدء النقاش حول القضايا المتفق عليها كالإيمان بالله والنبوات، وأصول الدين الستة، ثم النقاش حول مواجهة الإلحاد والشبهات الفكرية المعاصرة وتأجيل القضايا الخلافية العميقة مثل الإمامة أو صفات الله إلى مراحل لاحقة بعد بناء الثقة، والتدرج بحذر إلى القضايا العقدية الشائكة.

ويمكن صياغة نظام داخلي واضح، كوضع دستور أو نظام أساسي للمجمع يحدد طريقة اختيار الأعضاء مثلا عبر ترشيحات من المجامع العلمية والهيئات الشرعية المعترف بها، وأن تكون هناك آليات تنظيمية للعمل كلجان متخصصة لكل موضوع عقدي.

وأن يكون هناك معايير لاختيار العلماء والمفكرين ممن لهم خبرة علمية، واعتدال فكري، وقبول عام.

وسيكون المجمع العقدي الإسلامي بلا شك رافدا من روافد تعزيز الحوار والتفاهم بين الطوائف الإسلامية المتنوعة، والحد من سوء الفهم والخلافات العقدية، مما سيجعله منصة للنقاش العلمي والموضوعي بدلا من الجدال العاطفي أو العدائي. والذي لا يكون إلا من خلال إعداد منهجية للحوار ووضع قواعد للحوار مثل: الالتزام بالأدلة العقلية والنقلية، وتجنب التكفير والتجريح، والالتزام بآداب الاختلاف.

وإنشاء لجان تخصصية: كلجنة للعقيدة العامة (مثل التوحيد والنبوة)، ولجنة للقضايا الفكرية المعاصرة (الإلحاد، العلمانية). ولجنة لإدارة الخلافات (قضايا تاريخية وعقدية).

وسيحقق المجمع العقدي الإسلامي توحد الطوائف الإسلامية للتصدي للقضايا الكبري مثل الإلحاد والتنصير والعلمانية والانحرافات الفطرية كالشذوذ، والإساءة للإسلام بشكل عام. وبالطبع إن الكثير سيرى استحالة هذه الفكرة ومعارضتها، ولكن الله تعالى يقول (وجادلهم بالتي هي أحسن). وقد أمر جميع من آمن بالقرآن أن ندعو أهل الكتاب ممن يشرك بالله ويكفر بالرحمن ويكذب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كلمة سواء، فكيف لا يجتمع المسلمون وهم مأمورون أن يقيموا الدين وألا يتفرقوا فيه.

ونحن لا نفرط في المثالية بل ندرك خطورة الواقع والتعقيد الشديد في العلاقة بين مختلف الأطراف ولكن يمكن وضع أهداف قصيرة ومتوسطة المدى، مثل التركيز على قضايا عملية وقابلة للقياس، مثل الرد على الإلحاد والشبهات الفكرية المعاصرة، قبل التطرق إلى قضايا الخلافات العقدية.

وبدء العمل على أساس مصغر وتجريب الفكرة على مستوى إقليمي أو محدود قبل توسيعها عالميا. وليس من أدوار المقال ذكر خطة تفصيلية إنما هي إلماحات.

هل سيكون من أكبر المخاوف تدخل السياسة بأن يجعل المجمع العقدي الإسلامي أداة في يد الحكومات والقوى السياسية؟ وهل تأسيسه كمؤسسة علمية مستقلة تماما مع تمويل شفاف ومستقل يحل هذا الإشكال؟ مثل إنشاء صندوق تمويلي مستقل بشفافية كاملة، يعتمد على تبرعات المسلمين من مختلف أنحاء العالم، ومؤسسات خيرية دوليةـ وأن يكون مقره في دولة حيادية.

وهل من المخاوف أن يتعمق الخلاف العقدي ويكون بدلا من الحل، لأن بعض الخلافات جذرية؟ أم أن البدء يكون بالقضايا المتفق عليها وترك المسائل الخلافية العميقة لاحقا إلى مراحل متقدمة بعد بناء الثقة سيكون حلا؟

وهل ستؤثر الهيمنة المذهبية على هذه الفكرة، كأن تخشى بعض الطوائف مثلا من أن يستخدم المجمع لفرض رأي الأغلبية وتهميش الأقليات، وهل بضمان تمثيل عادل لكل الطوائف والنص في ميثاق المجمع على احترام التنوع سيحل هذا؟ ولماذا قد يرفض المتشددون الفكرة؟ هل لظنهم أن المجمع سيكون للتقريب بين العقائد على حساب الثوابت الشرعية أو تنازلا عن العقيدة الصحيحة؟ أم أن التواصل مع هذه الفرق أو الجماعات قبل إطلاق فكرة المجمع العقدي الإسلامي والإيضاح لها أن الهدف هو تعزيز التفاهم لا التنازل عن المبادئ، وأن التركيز على أن الحوار العلمي لا يعني قبول جميع الآراء والمساومة على العقيدة، سيكون حلا؟ وهل سيكون لمشاركة هيئة كبار العلماء مثلا وكبار علماء الأزهر وأشرافهم على المجمع مع كبار الطوائف الأخرى ممن يشهد لهم بالاعتدال، دور في إعطاء المصداقية للمجمع عند عامة المسلمين؟

هذا والصلاة والسلام على نبي الله هارون ما أفقهه حين قدم الاجتماع ووحدة الكلمة وعدم التفرق على أعظم ما أمرت به الرسل في مواجهة أعظم ذنب وهو الشرك وعبادة غير الله - مع نصحه لهم - فقال لأخيه موسى عليه الصلاة والسلام حين عاتبه على ما عبد قومه من بعده (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل).