بسمة السيوفي

ساح يسيح سياحة

الأربعاء - 11 سبتمبر 2024

Wed - 11 Sep 2024

لا بد أن نعترف أن بلادنا تخطو خطوات جريئة نحو أن تصبح وجهة سياحية عالمية، وتحولت إلى مركز جذب عالمي مستفيدة من رؤية 2030 لتنويع الاقتصاد بعيدا عن الاعتماد على النفط.

في النصف الأول من 2024 استقبلت البلاد نحو 60 مليون سائح، أسهم هؤلاء في تعزيز الاقتصاد الوطني من خلال إنفاق نحو 143 مليار ريال.

مما يدلل على نجاح السياسات التي وضعت للتركيز على هذا القطاع.

ومن البديهي في ظل هذا النمو غير المسبوق التساؤل عن معايير تحقق النجاح في السياحة؟ وهل تم قياس النجاح بالأرقام، والنسب المئوية.. أم أيضا بالتحولات الثقافية والاجتماعية التي ترافق هذا النمو؟ Top of Form Bottom of Form.

نحن بلاد تزخر بالمعالم العريقة والآثار الإسلامية بالغة الأهمية، مما يجعلها وجهة دينية رئيسية لملايين المسلمين حول العالم... هناك المواقع التراثية والتاريخية التي تعود إلى آلاف السنين، إضافة إلى الأودية والجبال والسواحل، وكذلك المتاحف والحصون والقصور.. كلها تعكس جمالا استثنائيا يدعو إلى التركيز في المرحلة القادمة على تعزيز المكانة السياحية محليا ودوليا.

السياحة ليست مجرد أرقام تزدهر، بل باتت تجربة تتسم بالتفاعل مع الحياة اليومية بكل ما تحمله من أفراح ومفاجآت.. أصبح مشهد السياح وهم يتجولون بيننا في الفنادق والأسواق والمطاعم أمرا مألوفا، حتى في اللحظات غير المتوقعة، كما حدث الأسبوع الماضي في جدة، حين انهمرت الأمطار بغزارة وغمرت الشوارع.. كنت عالقة في الزحام بين أمواج المياه التي تحيط بالجهات الأربع لسيارتي.. لأشاهد أمامي ثلاثة سياح شباب، بينهم فتاة، يشقون طريقهم مشمرين في المطر، ملابسهم مبللة والوجوه تمتلئ حماسا واستغرابا.

المنظر عالق في ذهني حتى اليوم.. وهو خير دليل على التعايش بين السياح والمجتمع المحلي، سواء في الأيام الصعبة أو عند التحدي.

لا ننكر الجهود المبذولة لتحسين تجربة السياح من تطوير المطارات وبناء فنادق جديدة، إلى تحسين وسائل النقل الداخلي، ومع ذلك يظل التحدي الأكبر في تطوير البنية التحتية وتعزيز الوعي الثقافي المتعلق بقبول المجتمع المحلي للتحولات الكبيرة التي يشهدها القطاع السياحي.. فالتعامل مع الزوار من ثقافات متنوعة يتطلب إصلاحات ثقافية وتعليمية لتشجيع المواطنين على فهم أهمية السياحة، ضمانا لاستدامة هذا التقدم وتطويره لا بد من التركيز على تقديم نماذج سياحية تلبي احتياجات السائح المحلي والدولي.. بمعنى آخر السياحة المثالية.

في هذا السياق.. أجريت حوار ماتعا مع السيدة عبير جميل أبو سليمان، في برنامج بودكاست لمركز الخليج للأبحاث، عبر سلسلة حلقات تقدم في إطار برامج جودة الحياة.. تناول الحوار أهمية الإرشاد السياحي في تقديم تجربة متكاملة لضيوف المملكة.

تكلمت وهي المتخصصة في منطقة جدة التاريخية وإحدى رائدات الإرشاد السياحي في المملكة، تحمل وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي، تقديرا لجهودها وإسهاماتها في تعزيز الروابط الثقافية بين المملكة وفرنسا.. كان أبرز ما ركز عليه النقاش الدور الحيوي للمرشد السعودي في تحسين تجربة السائح، وضرورة أن يتجاوز مهمة نقل المعلومات بصورة تلقائية ليصبح الصانع المبدع لتجربة مؤثرة تعزز المعرفة والدهشة لدى السائح.. النجاح في هذا الدور لا يقاس بعدد السياح الذين تمت خدمتهم، بقدر العمق والأثر الذي تنقله التجربة إلى عقل وقلب السياح القادمين إلى ربوعنا.

المرشد السياحي هو بوابة التجربة السياحية، وربما جاء قرار نائبة وزير السياحة الأميرة هيفاء بنت محمد بإلغاء بعض شروط الإرشاد السياحي لذوي الإعاقة كخطوة محورية نحو السياحة الشاملة، مما يفتح المجال أمام الجميع للمشاركة في هذا القطاع.. فقد زادت معدلات التوظيف في القطاع من 650 ألف وظيفة تقريبا في 2019.. وتوقعات بأن تصل إلى 1.6 مليون وظيفة بحلول 2030.

مما يعكس تحولا في مفهوم الإرشاد السياحي نحو تجربة إنسانية أكثر شمولية واحتواء.. وربما نناقش تبعات هذا القرار في مقال لاحق.

الأكثر تحديا لما سبق هو "بعبع" الذكاء الاصطناعي المهيمن بقوة على قطاع الإرشاد السياحي، حيث سيقدم تجارب مخصصة للسياح بحسب احتياجهم.. ستجري تطبيقات الهواتف الذكية الحجز، وتوفر المعلومات السياحية، وخدمات النقل، مما سيجعل السياحة تجربة سلسة وغنية.

تخيل أن تزور مدائن صالح باستخدام نظارات الواقع المعزز، وأن تتفاعل مع النقوش التاريخية التي يعود تاريخها لأكثر من 10 آلاف سنة قبل الميلاد في حائل، عبر تطبيق تفاعلي ذكي يقدم المعلومات باللغة الأم.

المرشد الافتراضي سيجعل من الصعوبة الحفاظ على العنصر الإنساني، الذي يقدم تجربة ثقافية وشخصية لا يمكن استبدالها بسهولة بالتكنولوجيا.. والحل في التكامل بين الذكاء الاصطناعي والمرشد السياحي، فالأدوات الذكية تعزز التجربة، بينما يقدم المرشد معلومات أكثر دقة وتفاعلا مع الزوار.

السياحة ليست مجرد استثمار في الحجر بل هي تحسين القدرات البشرية، وتطوير لثقافة السياحة المثالية، وإصلاحات للبنية التحتية.. لأن المستهدف إن تكلمنا بالأرقام.. هو مساهمة السياحة في إجمالي الناتج المحلي لتصل إلى 10% بحلول 2030.. بينما الإنجاز الحقيقي يقبع خلف التفوق على التوقعات التي سيحملها السائح عائدا إلى بلاده.. ليحكي عنها للآخرين.

مقياس النجاح يعني القدرة على خلق تجربة غنية ومؤثرة تربط الزائرين بتاريخ المملكة وثقافتها، وتجعلهم يعودون مرارا وتكرارا من أجل تجربة سياحية متكاملة تجمع بين متعة الاكتشاف وبين لحظات الدهشة.. الدهشة التي تقول إن ما فاتهم عن المملكة العربية السعودية لا يمكن أن يعوض.

وساح السائح في بلادنا فوجد في كل زاوية سياحة.

smileofswords@