سالم الكتبي

في الجدل حول مصير غزة

الأربعاء - 17 يناير 2024

Wed - 17 Jan 2024

اليوم التالي للحرب هو الشغل الشاغل لجميع الدوائر السياسية في إسرائيل وحلفائها الغربيين، وكثير من الدول العربية.

وهناك سيناريوهات عدة متداولة في هذا الشأن، وجميعها يتمحور حول استبعاد أي دور للحركات والتنظيمات غير الشرعية، في إدارة القطاع.

فيما ترى السلطة الفلسطينية أن مستقبل القطاع يحدده الشعب الفلسطيني وليست إسرائيل.

المؤشرات تقول، إن هناك اختلافا كبيرا في وجهات النظر بين إسرائيل وبقية الأطراف المعنية بمصير القطاع، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، ودول عربية معنية، سواء بحكم ارتباطها بالقطاع كمصر، أو بحكم مسؤوليتها وكونها من القوى الإقليمية الفاعلة التي ينبغي أن يكون لها دور مؤثر في هذا الملف العربي، مثل الإمارات والسعودية والأردن.

وبلا شك، إنه خلاف بدهي في مثل هذه الظروف، لأن لكل طرف أولوياته أو ورؤيته الاستراتيجية، سواء للأمن والاستقرار الإقليمي بالنسبة للأطراف العربية، أو لأمن إسرائيل، كما تراه حكومة نتنياهو، التي تمتلك بحد ذاتها وجهات نظر شديدة التفاوت والتطرف أحيانا، تراوح بين البقاء في القطاع والعودة للسيطرة عليه أمنيا، على الأقل في ظل وجود حكومة تكنوقراط وإدارة عربية مشتركة للشؤون المدنية، وبين دعوات مستهجنة لتهجير الفلسطينيين من القطاع، وهي الدعوات التي تتسم بقدر هائل من التطرف، ولا نعتقد أنها تخدم مصالح الشعب الإسرائيلي على المديين القريب والبعيد، فضلا عن صعوبة تحققها وتأثيرها السلبي البالغ عن علاقات إسرائيل مع الدول العربية، الساعية إلى ترسيخ حلول قائمة على التعايش والاعتدال والأمن والاستقرار.

لا شك أن قدرة إسرائيل على بناء مستقبلها ومواصلة مسيرة السلام والتنمية، والعودة تدريجيا إلى ما قبل السابع من أكتوبر، يبدو إلى حد كبير مرهونا بقدرتها على الوقوف على أرضية مشتركة مع عواصم الاعتدال العربي، وبحيث لا تضع هذه العواصم في حرج جراء التزام هذه الدول بمسؤولياتها التاريخية تجاه الشعب الفلسطيني، والكل يعرف حجم التعاطف الذي تحظى به معاناة المدنيين الفلسطينيين الأبرياء من الشعوب العربية والإسلامية، وبالتالي فإن رسم سيناريو اليوم التالي للحرب لا ينفك عن أخذ وجهات نظر أطراف عربية محورية، مثل السعودية والإمارات ومصر والأردن، في الحسبان، إذ ينبغي على أي حكومة إسرائيلية إدراك أن الجميع في هذه الأزمة في مركب واحد، وأن أمن إسرائيل هو جزء من أمن المنطقة بأكملها، وهو أمر لن يتحقق سوى بمراعاة وجهات نظر وتصورات الأطراف العربية لتحقيق الأمن والاستقرار، كي يمكن لهذه الأطراف أن تشارك بفاعلية في تجاوز هذه المرحلة بأسرع وقت ممكن، وبأقصى درجات الفاعلية والنجاح، الضامنة ليس فقط للاستقرار ولكن أيضا لاستئصال الأيديولوجيات المتطرفة وإقناع سكان قطاع غزة بحتمية التخلي عن هذه الأفكار، ورفض التعاطف معها لاحقا.

الحقيقة التي لا يمكن القفز عليها، أن جزءا كبيرا من بناء مستقبل قطاع غزة والتوصل إلى مخارج آمنة تضمن الأمن والاستقرار في القطاع وخارجه، يقوم على دور السلطة الفلسطينية، إذ لا ينبغي أن تكتفي باللاءات والرفض والحكم على التصورات المطروحة من هذا الطرف أو ذاك بالفشل والنجاح، وكذلك من الضروري التخلي عن الشعارات والمزايدات والعناوين غير الواقعية للحل، وهذا يتطلب استيعاب معطيات المرحلة الراهنة للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، بطريقة تستجيب لاحتياجات الشعب الفلسطيني من جهة، ومخرجات البيئة الإقليمية والدولية الراهنة من جهة ثانية، وحال الفصائل والتنظيمات الفلسطينية وما تسببت فيه الانقسامات وآلت إليه الأوضاع من جهة ثالثة، وهذا كله يتطلب مكاشفة تاريخية للذات، وإجراء نقاشات داخلية معمقة، واتخاذ قرارات تعلي المصالح العليا للشعب الفلسطيني الذي يعاني سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية، ويدفع ثمنا باهظا للفوضى والانقسامات والصراعات الحركية والحزبية والشخصية أيضا، وهذا كله ليس مطلبا مكملا للتوصل إلى رؤية آمنة لليوم التالي للحرب، ولكنه ركيزة للوصول إلى هذه النقطة، فلا مجال للمزايدات على حساب كل هذه الدماء التي سالت بسبب قرارات عشوائية وتصرفات هوجاء، تسببت في وضع مصير القضية الفلسطينية بأكملها على المحك، وبدرجة غير مسبوقة طويلة العقود والسنوات الماضية.

الواقع الآن، أنه لا خطة واضحة لدى أي طرف حول مستقبل قطاع غزة، وهذا الأمر في حد ذاته يمكن أن يطيل أمد الحرب، ونعتقد أنه كلما عجّل الجميع ببناء توافقات وتفاهمات حول الخطوة التالية، فإن مخرجات ذلك قد تكون قاطرة قوية للدفع باتجاه إنهاء العمليات العسكرية والتوجه نحو السياسة، واستطلاعات الرأي التي تجرى في الأراضي الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، تشير إلى توجهات لافتة لجهة دعم حركة «حماس»، وقناعتي أن الأمر لا يرتبط بتأييد أيديولوجية الحركة بقدر ما يعكس تعاطفا وقتيا، والأهم هو رفض السلطة وسياساتها وقياداتها، ومن يشكك في ذلك عليه قراءة نتائج استطلاعات الرأي التي تجريها مؤسسات فلسطينية بدقة وتأنٍّ، لأن فيها من المؤشرات ما يغني عن كثير من التحليل والنقاش والجدال، وجميعها تشير إلى أن التغيير أمر لا ينبغي غض الطرف عنه بأي حال من الأحوال، فقد حانت لحظة الحقيقة وإعلاء المصالح العليا والاستماع للحقائق، وأولها أن هناك حاجة ملحة لقيادات فلسطينية جديدة يمكن أن يلتف حولها الشعب الفلسطيني، وأن الحاجة لهذه الدماء الجديدة لا يبقى مطلبا أساسيا ومحورا لأي تسوية سياسية، بغض النظر عن شكلها وتفاصيلها، إذ إن بقاء الأمر بيد الفلسطينيين أنفسهم لا مفر منه.

drsalemalketbi@