خالد العويجان

الأرقام التي لا تكذب.. السعودية نموذجا

السبت - 10 يونيو 2023

Sat - 10 Jun 2023

شهية التاريخ مفتوحة للبحث عن زائرين، والحسابات غالب ما تدمي الورق، والأرقام مشنقة للمسؤول، والوعود لم تعد تنطلي على المجتمعات التي أصبحت أكثر وعيا عن السابق.

هندسة الأنظمة للشعوب ليست فرصة متوفرة. والدفاتر حاضرة؛ الماضية والحالية والقادمة.

كتبت المملكة العربية السعودية تاريخها منذ التأسيس، بحروف من تضحيات الرجال. تتفهم هي ومجتمعها أنها ذات خصوصية دون غيرها، وتدرك أيضا هي وشارعها أنها ليست نتيجة احتلال أو استعمار. نياشين المقاتلين في أفخم صفحات الماضي، ورائحة البارود اعتادت عليها أنوف الرجال وأبناء الرجال أيضا، العنوان الأهم في هذه الدولة «الشجاعة والإقدام».

والقضية ليست حديثا عن تاريخ شهدته المملكة في حقبة مضت، حين كانت الدولة في مرحلة جاءت بعد الشتات؛ وواجهت ما واجهت سواء من الداخل أو الخارج، إنما فيما بعد ذلك، من فترة كبرى، تحولت عبرها إلى كيان كبير، له ما له، وعليه ما عليه.

وخلال ذلك، وحتى وقت قريب، كانت المنطقة على صفيح ساخن، لا بل إنها أشبه بـ«حلبة مصارعة»، بدأ الجميع بالنظر إلى اشتعال تلك الحلبة، إبان الحرب العراقية الإيرانية، ومن ثم الغزو العراقي للكويت، بكل تداعياته على المملكة والخليج، وصولا إلى مرور المنطقة باستهدافها من قبل التطرف الذي مثله «تنظيم القاعدة»، انتهاء بما يسمى «الربيع العربي»، وأسميه «خريفا ممحوقا».

وجاءت انعطافه يشوبها كثير من الخطر، حين خرج عديد من الدول عن الخط الدبلوماسي والسياسي، وأصبحت تعمل عمل «ميليشيا»، وكان ذلك على مرمى حجر من المملكة. تسيد الحلم في السياسة السعودية وسيطر على ردود الأفعال، وابتعدت عن التشنجات. وحين لم تجد طاولات المفاوضات، انصرفت.

قبل سنوات ليس ببعيدة – أي بعد تولي الملك سلمان مقاليد الحكم – اختلفت قواعد السياسة السعودية، البعض يفسرها بأنها انتقال من مرحلة دفاع لمرحلة هجوم، وهذا غير صحيح؛ لأن المملكة لم تكن بمحل ضعف حتى تكون في موضع دفاع؛ ولم تنتقل لموضع الهجوم؛ لأنها لم تكن يوما معتدية.

يعي صناع القرار، أن السياسة كما هو معلوم؛ قد تقود لتجرع نوع من السم في بعض الأحيان؛ إن لم تكن ذا حزم وشجاعة وصاحب قرار؛ لذا شاهد العالم كيف تمكنت المملكة من قول «لا» لدول عظمى، كانت ترى في نفسها أنها صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة على العالم.

وذلك الموقف السعودي ليس من باب «العنتريات»، بقدر ماهو يعبر عن الشخصية السعودية الحقيقية. وتزامن ذلك بنفس الوقت، مع انصراف عن كثير من ملفات السياسة، للنظر إلى الداخل، كيف؟ قلب صانع القرار دفاتره، ووجد أن عليه الاعتداد بالإنسان السعودي بالدرجة الأولى، وهذا لن يتحقق دون تهيئة مستقبلة بالقول والعمل، ولي في ذلك أدلة.

فحين دفع الملك سلمان بالأمير محمد كولي للعهد، كان على يقين أنه سيتغلب على عامل الوقت والعاطفة، للدخول إلى دهاليز الإنجاز، دون انتظار أكثر من تنمية وطنه وإنسان وطنه.

لذا حمل ولي العهد حقيبته، ومضى في تقليب مصادر قوة بلاده، بعيدا عن النفط، الذي يستحيل أن يتم مواصلة الاعتماد عليه، على حساب تغافل مكامن القوى الأخرى.

وفي ذات الوقت، انتبه الأمير محمد لأمر ما، وهو إقناع الشارع السعودي بما كان يحمل من أوراق داخل تلك الحقيبة، وهذا بالفعل ما تحقق.

خرج ذات يوم وأعلن عن رؤية كبرى وطويلة الأمد للدولة، حتى يومنا هذا تحقق منها الجزء الأكبر، دون انتظار لموعدها النهائي، وقال أيضا ذات مرة «أطلب من الجميع بأن لا يصدقوني، انظروا للأرقام، الأرقام هي التي تتحدث».

شرح يومها كثيرا من الأرقام، والأرقام التي لا أجيدها ولا أحبها وتكرهني، لا تجامل أحدا، ملكا كان أو غيره، وذلك كان ذا هدف.

ماهو؟ أولا لم يكن ذلك السقف من المكاشفة أمام الشعب، اعتباطيا أو محاولة لدغدغة عواطف الشارع وكسب وده، إنما كان رهانا على تغيير الذهنية النمطية السعودية، ونقلها من زاوية القول، إلى جهة العمل، وبالفعل نجح ولي العهد في ذلك، وهذا يمكن قراءته من حجم الإيمان بمشروعة الكبير.

وأقرب الأدلة التي يمكنني الاستناد عليها، فقد كان منتصف شهر رمضان موعدا للإعلان عن «الرياض للطيران» والأسبوع المنصرم، تم الكشف عن أسطول الشركة، وجاهزيتها لدخول هذا السوق الكبير، ومن المقرر أن تحلق طائرات الشركة في سماء العاصمة.

بالمناسبة، احتفل السعوديون عن بكرة أبيهم بذلك، وأنا على يقين أنهم لم يحتفلوا بشركة الطيران، بل بوعد «عرّاب التجديد».

ما أردت الوصول له اليوم؛ هو أن الرأي العام السعودي، بات أكثر من الدولة، تبنيا وإيمانا بمشاريعها، وذلك ليس من باب المجاملة، إنما من منطلق الإيمان بفكرة تحديث بلادهم الكبيرة – دون تجاهل أو تخلي عن الموروث –، وهو – أي المشروع –، قد تحول إلى مصدر إلهام للجوار، والمنطقة، والعالم.

إن كتابة قصة هذا الوطن العظيم، على رغم أنها لم تحك بعد، إلا أنها نقلت دولة بشعب، من محور إلى محور؛ ومن أراد الدليل، فلينظر لحجم «حب الملهم والإيمان به».

لذا يحق لنا القول إننا أبناء دولة، بعيدا عن أنها لطالما كانت هدفا لأحزاب متخلفة وصفتها على مدى عقود بـ«الرجعية» وعايرتها بإرثها، وباتت حاليا أهم أماني «العربان» زيارة قصيرة لهذه الدولة، التي تحولت لنموذج عصري، للفعل قبل القول. هم يحلمون، ونحن نحقق الأحلام.

والسلام.