خليل الشريف

الامتنان العظيم

الاثنين - 27 فبراير 2023

Mon - 27 Feb 2023

يعرف الناس عن الإحباط والملل والخوف والاكتئاب والحزن والتشكي واليأس والعجز؛ أضعافا مضاعفة عما يعرفونه عن جرأة الأمل والقوة والحماس والشجاعة والتفاؤل والعزم والمثابرة والشكر والامتنان والإصرار لبلوغ الإنجازات.. وهذا يفسر لماذا معظم الناس يعيشون في الحالة الأولى، بينما القلة تعيش في الحالة الثانية؟.

من أعظم الحكم التي يمكن أن يتبناها الإنسان أن يبتعد قدر الممكن عن 90% من الناس، لا تفعل ما يفعلون، ولا تتحدث كما يتحدثون، ولا تتصرف كما يتصرفون، ولا تذهب حيث يذهبون، ولا تتخصص فيما يتخصصون، وأخيرا والأكثر أهمية تخلص من قائمة اللوم التي يتمسكون بها، يجب أن تخوض حياة حقيقية خاصة بك أنت دون الآخرين، ويجب أن تبدأ هذه الحياة أولا بالامتنان المطلق والشكر العظيم لله - عز وجل - على ما حباك من نعم وإمكانيات وقدرات غير محدودة، كنت عدما فأوجدك، وكنت صغيرا ضعيفا فأعطاك الجسد والقوام القوي، وكنت جاهلا فعلمك ما لم تكن تعلم، وكنت في ضيق ومررت بكروب فأخرجك منها أقوى مما كنت.. وفي هذا يمكن الإشارة لأهم قوانين الحياة في هذا الكون قلة من الناس من يدركه ويعمل به: «إن ثروات هذا الكون ونعمه وهبات الله العظيمة فيه أكثر ما تكون قربا من الإنسان الشاكر الممتن» تشير إلى ذلك أروع الحكم التي تظهر معاني الامتنان العميقة في المقولة الشهيرة التالية: «طلبت من الله القوة، فأعطاني صعوبات تقويني، وطلبت الحكمة فأعطاني الله المشاكل لحلها، وطلبت الشجاعة فأعطاني الله المخاطر لأتغلب عليها، وطلبت المحبة فأعطاني الله أناسا مكروبين لأساعدهم، دعائي تم الرد عليه».

وفي السياق ذاته اطلعت لمنشور في مواقع التواصل يمتلئ بهذه المعاني الطيبة والعميقة للشكر والامتنان يقول: «الحمد لله أن المال يذهب على وقود السيارة المرتفع، ولم يذهب في مصيبة أو كارثة، والحمد لله أنه يتوفر مال لننفقه على الوقود، والحمد لله أننا نمتلك سيارة من الأساس. الحمد لله على أعمال البيت اليومية الشاقة من التنظيف والطبخ والترتيب والتجهيز، الحمد لله أننا بصحة جيدة للقيام بها، والحمد لله أن هناك أسرة لنجهز لها، والحمد لله أن لدينا بيتا يأوينا بالفعل. الحمد لله على الدواء الذي نأخذه كل يوم، والحمد لله أن المرض الذي نعاني منه يتوفر له دواء وقادرون أن نحصل عليه.

الحمد لله على تعب العمل والدوام اليومي، والحمد لله أن لدينا أصلا عملا ووظيفة نرتزق منها. الحمد لله أن البيت أثاثه مبعثر وتملأه الفوضى بسبب قفز الأطفال المستمر ولعبهم، الحمد لله أن لدينا أطفالا والحمد لله أنهم قادرون على الحركة واللعب والقفز.. الحمد لله دوما وأبدا».

عندما ننظر للحياة من زاوية الامتنان والشكر لله؛ تتغير الكثير من مشاعرنا بسرعة مفاجئة، حتى حديثنا السلبي الذي نعتقد أنه مجرد فضفضة وتنفيس، يصبح في نظرنا على حقيقته التي يحمل في ثناياها شكلا من أشكال التسخط وعدم رؤية الحياة على حقيقتها.

عندما تشكر الله بقلبك أولا قبل لسانك فكل مرة يحاول فيها الكره والبغض أن يكون حديثك الداخلي سيتحول مباشرة لحديث عن الحب والخير والرغبة في العطاء، وكل مرة تحاول عبارات الفشل واليأس أن تمشي على طرف لسانك تجد عبارات الثقة والشجاعة تمحوها بالكامل.. هكذا يفعل الشكر والامتنان مفعول السحر.. كل يوم.. كل يوم عليك أن تشكر الله على النعم التي لن تستطيع إحصاءها لآخر لحظة من حياتك، ومن ثم عليك أن تشجع نفسك وكل من حولك على أن يحدثوا أنفسهم بكل ما يعزز الثقة والقوة والتفاؤل والنجاح والحب والسعادة والطمأنينة الداخلية.

إن الشيطان لا يأتي للإنسان من باب الشهوات فحسب، فقليل من العزم والتقوى كفيلة بقفل هذا الباب أمام وجهه بكل بقوة. لكنه دائما وأبدا يأتينا من أبواب أخرى، وهي باب اليأس والقنوط والخوف والتذمر والشكوى والطمع والشح والجبن والحزن والقلق.. هذه الأبواب التي تنطلق منها الشياطين على الناس وأبوابها مشرعة، وقدرة الناس – للأسف الشديد – بالوعي بها وفهمها محدودة وأحيانا منعدمة.. لذلك لنراقب كم عدد البشر الذين وفر الله لهم كل شيء في الحياة من صحة جيدة، ومأوى ومطعم وملبس، وتعليم وأمن وأمان وحاضنة اجتماعية، وفوق هذا كله أعطاهم الله عقلا مكتمل القدرات والإمكانيات تضاهي قدراته وإمكانياته كل ما يخطر على بال البشر من الإمكانات المادية المحسوسة في العالم.. مع ذلك يقبع الملايين منهم في دائرة الملل والتفاهة والكسل والخمول ومن ثم اليأس والضعف والعجز الكلي عن عمل شيء حقيقي ومفيد، وعندها يتحول الشخص إلى متذمر مدى الحياة يرمي قصوره وإهماله وضعف عزيمته على أي شيء يمكن أن يحمله السبب والعذر لما هو عليه.. فمرة تكون الظروف، ومرة تكون الأنظمة والقوانين الموجودة، ومرة الإمكانات، ومرة الواسطة، ومرة جشع الأغنياء.. والقائمة تطول.

هذا يقودنا لمناقشة قضية محورية، كثيرا ما نرى أشخاصا يقصرون النعمة والرزق في وفرة المال تحديدا، إليك أخي القارئ هذه الحقيقة.. نعم وفرة المال أحد أهم النعم وأكثرها ضرورة لكنها ليست النعمة الوحيدة في الحياة، فالصحة والوعي والمواهب والقدرات والحاضنة الاجتماعية والأمن وكثير من الأمور لا تقل أهمية إن لم تكن أكثر أهمية من المال.. لكنني أعود وأقول وأكرر.. وفرة المال أحد أهم النعم وأكثرها ضرورة.. يجب أن تطلبها من الله بشكل يومي.. ويجب أن تسعى لتحقيقها أيضا بشكل يومي.. وعليّ هنا أن أقدم بشارة تهكمية، ولكنها ضرورية.. إذا احتقرت المال أو بغضته أو اعتبرته شيئا غير مهم أو قللت من السلطة العظيمة التي جعلها الله فيه.. فإن المال لا محالة سينفر منك، ويذهب لأيدي أشخاص آخرين يقدرون قيمته وأهميته.

كما أنه والأهم من ذلك.. المال لا يحب أن يأتي للأشخاص المحبطين أو الكسالى أو المتشائمين أو الجشعين أو أصحاب الوعي المنخفض، وإذا حصل وشذ المال عن هذه القاعدة وذهب في أيدي السفهاء ومنخفضي الوعي أو جاحدي النعم فإنه آجلا أو عاجلا سرعان ما تتوالى الأحداث ليعود المال لمكانه الصحيح، حيث يكون المال لمثل هؤلاء مصدر كرب وعذاب عظيم يخلق لهم العداوات والصدامات والتناحر العائلي والخصومات والمشاكل المدمرة للصحة والنفس، يفقدون بسببه أعز الناس ويكسبون بسببه كراهية المقربين لهم، إنه لن يكون مصدر راحة بال بالنسبة لهم، ربما كما شهدناه يتحول إلى لعنة عند عدد من المشاهير، فينحون للإدمان والعلاقات المدمرة والتفسخ الأخلاقي والتدمير الذاتي وأحيانا يسوقهم لجرائم تنهي حياتهم في السجون وفي أحيان أخرى قد يأخذهم للانتحار، ذلك أن المال لا يرتاح إلا في أيدي العقلاء والحكماء وأصحاب المعرفة والتعلم والطموح والوعي والمبادئ الرصينة، كما يقول عليه أفضل الصلاة والسلام «نعم المال الصالح للرجل الصالح».

فإذا كنت تريد الوفرة المالية.. وهذا مطلب مهم جدا ومشروع في الحياة.. تأكد أولا أن طريق هذه الوفرة يبدأ أولا من حيث تعرف النعم التي لديك ومن ثم تشكر الله عليها وتمتن له عليها بشكل يومي، ثم تمتلك الروح الشجاعة والقوية؛ فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، يجب أن تكون صاحب عزيمة ومثابرة ودعاء يوميا لله بالتوفيق، يجب أن تحسن الظن بالله بأنه سيغنيك وسينظر لجهدك وعملك ودأبك وسيكافئك عليه في الدنيا قبل الآخرة لا محالة، يجب أن تثق بجرأة الأمل وأن تكون مشعا بالحماس والرغبة والشغف وأن تكون محبا ومسالما ودائما ما ترى الجوانب الجميلة في كل حدث.

أما الأمر الثاني فهو أيضا لا يقل أهمية عن الأمر الأول؛ إن أعظم هدية يمكنك منحها لنفسك، هي أن تجد ما أنت بارع فيه بشكل طبيعي، ما وهبك الله من موهبة أو حب وشغف لاتجاه معين، ومن ثم عليك أن تكتشف طريقة لاكتساب المال من خلاله، لأنك إن فعلت ذلك، سيكون كل يوم بالنسبة لك كأنه يوم للمتعة، ولن تشعر أبدا أنك تحارب نفسك، فأنت تحب ما تفعله، وإذا كنت تحب ما تفعله.. ما الذي سيجعلك تتوقف عن فعله؟!

تقول أوبرا ويفري «كن شاكرا لما لديك لتحصل على المزيد؛ لأنك إذا ركزت فيما لا تمتلكه فلن تكتفي أبدا» ويقول إيكهارت تول «إن اعترافك بالخير الذي تمتلكه بالفعل في حياتك هو أساس كل الوفرة» وتقول ويلي نيسلون «انقلبت حياتي كلها رأسا على عقب عندما بدأت بعد النعم التي أمتلكها، لم تعد أي مشكلة تمر في حياتي تشكل معضلة كبيرة كما كنت أراها في السابق.. إنها شيء تافه بالنسبة لما أملكه وأتمتع به» يضيف جي تشيسرون» الامتنان هو أسمى شكل من أشكال الفكر وهو السعادة الحقيقية» ويقول الفيلسوف ابكتيتوس «الحكيم لا يحزن على ما لا يمتلكه، بل يفرح بما يمتلكه» أما جلال الدين الرومي فله مقولة جميلة عن الامتنان «ارتد الامتنان كعباءة وسوف تغذي كل ركن من أركان حياتك».

والآن يمكنني أن أختم بآية عظيمة تلخص كل ما قلته هنا، قالها لنا رب العالمين الذي لا يخلف الميعاد سبحانه: «وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد» صدق الله العظيم.