سلطان حباب الجعيد

بكاء قلم

الخميس - 15 ديسمبر 2022

Thu - 15 Dec 2022

وقف قلمي مشدوها بعد موتك، عاجزا، حتى كأني لم أكتب في حياتي قط، ذلك أنه تجاهك ليس مجرد قلم جامد لا حياة ولا روح فيه، أوجهه كيف أشاء، بل هو يعرفك جيدا، ولديه مشاعره وأحاسيسه، فقد أحبك وأعجب بك حال حياتك، وهو اليوم لفقدك قد أعجزه وأقعده الحزن والألم.

ثم هو يعظمك جدا حتى ثقلت عليه مهمة الكتابة، وظن في نفسه أنه لن يوفيك حقك، فكلما وجهته إلى غير وجهتك قام وكتب ولم يخيب ظني، وإذا وجهته إليك حُبس وعُقر وأصابه ما أصاب فيل أبرهة، ولا لوم عليه في كل ذلك، فرثاء الوالد مهمة صعبة بالفعل، وقد قال شوقي معتذرا بعد أن عُوتب في تأخره في رثاء والده:

سَأَلوني لِمَ لَم أَرثِ أَبي

وَرِثاءُ الأَبِ دَينٌ أَيُّ دَين

أَيُّها اللُوّامُ ما أَظلَمَكُم

أَينَ لي العَقلُ الَّذي يُسعِدُ أَين

لذلك، كلماتي في رثائك سيدي ليست محايدة، فلا عتب عليها إن بالغت في ثنائها، فأنت من صنعتها وصنعتني، ولا عتب عليها إن بالغت في حزنها، فهي الثكلى التي فقدت حبيبها، ولا عتب عليها إن تلعثمت ولم توفك حقك، فهي في ذهولها ومصابها لم تفق بعد. ولما طال الوقت وخشيت أني قد جفوت، قلت لقلمي الذي تزمل وتدثر بحزنه: أيها المدثر، قم فاكتب، وبث شيئا من حزنك لعلك تسلو، وبث شيئا من فضائله ومناقبه لعلك تفي ببعض حقه، وتقضي بعض دينه، وحتى أشجعه وأخفف عليه المهمة، قلت له: لا عليك، فليس هذا كل ما سأكتبه عنه، بل أوله، ولا أزال أكتب حتى أفي بوعد قطعته على نفسي، أن أجمع قصة حياته التي سمعتها منه وشهدتها، في كتاب، فهذا الكلام ما هو إلا بعض دمعك ودمعي، بين يدي ذلك الوعد، حتى يعين الله على الوفاء به:

ولد أبي في الصحراء، في زمن كثير جوعه، قليل شبعه، كثيرة أمراضه وأسقامه، قليلة عافيته وسلامته، فخرج من الصحراء وحيدا لم يتجاوز العشرين من عمره، ميمما وجهه شطر المدينة، بعد أن فقد أباه وهو في سنته الأولى، ثم أخاه (سعدا) جراء الجدري الذي أصابهما، فسلم هو ومات أخوه، فكان هو الناجي الوحيد من براثن الصحراء وقسوتها، إلا أنه احتفظ منها بصفات وأخلاق البادية - وعلى رأسها السماحة والكرم - التي بقيت راسخة في نفسه ثم مازجتها بعد فضائل المدينة، فكان أحد أفراد الجيل المخضرمين.

كان أبي -رحمه الله- وثيق الصلة بربه، عميق التدين، معظّما للصلاة، لا أذكر منذ عرفته أنه فاتته تكبيرة الإحرام، فضلا عن الصف الأول، وحتى بعد أن طعن في سنه وثقل، لم يتغير، ولم يفقده مكانه في المسجد، وكانت مهمة سائقه الأساسية، الذهاب به للمسجد في الأوقات الخمسة، وكان كثير قراءة القرآن، وكثير الصدقة، محبا للدين وأهله، كثير النصح والتوجيه.

وكان أبي عطوفا رحيما، تجلى ذلك في اهتمام غريب بالأرامل والأيتام، وكأن نشأته يتيما جعلته يشعر بهم.

كان أبي أنيقا، والأناقة بالنسبة له أسلوب حياة، ليس في هندامه فقط، والذي كان شديد العناية به، بل حتى في تعامله مع الناس، فكما يحب أن يقابلهم بأحسن ثيابه، فكذلك كان يحب أن يقابلهم بأحسن أخلاقه، فلا يتعالى على أحد، ولا يقابل أحدا بشيء يكرهه، مهذبا ومؤدبا في منطقه، فلا يسمع منه الناس إلا أطيب الكلام، لا أذكر أنه سب أحدا أو عيّره، أو انتقص من قدره، أو أسمعه كلمة تؤذيه أو تجرحه، أو تترك في نفسه أثرا سلبيا، وكما كان يحاذر من أن يصيب هندامه الأذى والوسخ، فكذلك كان يحاذر أن تصيب أخلاقه الأوساخ والأقذار، فلا يدخل في خصومة مع أحد، ولا يشاتم أحدا، وإذا شاتمه أحد أو سابّه من السفهاء فلا يرد عليه، بل ولا يلتفت إليه، ترفعا منه بأخلاقه أن تفقد أناقتها المعنوية، وكان أنيقا في مجلسه، حريصا أن ينتقي لجلاسه أطيب الحديث من القصص والقصائد والطرائف، التي كان رافدها ما سمعه ممن كان قبله أو من قراءاته، ولم يكن حريصا على الكلام الحسن فقط، بل كان أيضا حسن العرض شيق الحديث، وربما كرر القصة في مجالس دون أن يمل المستمع.

وكان لأبي اهتمامات غريبة، إذا ما قورِنت بنشأته وبيئته، ومن ذلك القراءة، فكان محبا لها، على الرغم من تعليمه الذي كان على كبر، ولم يتجاوز إتقان مهارة القراءة والكتابة، ومع ذلك كانت من عاداته اليومية، فهو من قرّاء الصحف كل يوم، وكذلك كان شغوفا بقراءة دواوين الشعر الشعبي، وربما تعمد حفظ بعض النصوص، ليزين بها حديثه في مجلسه، وكذلك أحب قراءة كتب التثقيف الديني، وأذكر أنه قرأ سلسلة الدكتور عمر سليمان، في التعريف بأركان الإيمان.

ومن اهتمامته الغريبة التي تعكس حسا وشعورا بالجمال، اهتمامه بزراعة الورود والزهور والعناية اليومية بها، فكل دوره واستراحاته التي بنى، لا بد أن تحتوي على أحواض يزينها بأكاليل وأنواع من الزروع والزهور.

كان أبي يحمل بين جنبيه طاقة حب عجيبة، فهو محب للناس مخالط لهم، لم يتخلف عنهم في مناسباتهم واجتماعاتهم، وأفراحهم وأتراحهم، لا يحمل في قلبه غلا ولا حقدا ولا حسدا على أحد، وطاقة الحب هذه شملت حتى الجمادات، فأحب بعض سياراته فلم يبعها، وأحب دار ضيافته التي بناه خصيصا للضيوف، حتى خيل إلينا يوم وفاته أنها هي الأخرى فقدته وتشاركنا الأحزان.

كان أبي محل اتفاق بين الناس، والرجل الذي تجتمع عليه القلوب عملة نادرة جدا، وكان محط حب واحترام الجميع، الكبيرِ والصغيرِ، الرجالِ والنساء، باختلاف مستوياتهم وطبائعهم ومعاييرهم التي خلالها يقيمون الناس، وكأن كل أحد وجد فيه بغيته؛ فهو بذلك كان من الرجال الذين يحافظون على توازن المجتمع الذي يعيشون فيه، ويسهمون في تخفيف حدته وتوتراته.

كان أبي صاحب رأي وتؤدة، رشحته أن يتصدر قومه، ويكون وجهتهم وواجهتهم، والدوحة التي يتفيؤون ظلالها، ففي مجلسه العامر، حُلت كثير من المشاكل، وانتهت كثير من القضايا، وكان محل رضا وقبول المتخاصمين، يختارونه في فض نزاعاتهم ويقبلون حكمه ورأيه.

كان أبي شديد الشعور بالواجب تجاه مجتمعه وقبيلته، أحبهم بصدق، ومنحهم وقته وجهده، وتولى الدفاع عن ديارهم، فكان المنافر والمترافع عنها والممثل لها، في المحاكم وغيرها.

اهتم بتطوير هجرة القبيلة "شقصان" فسعى في جلب الخدمات الحكومية إليها، فإليه - بعد الله - يرجع الفضل في وجود غالب الخدمات، من تعليم وصحة ومياه وأمن وما إلى ذلك، فهو أحد أهم مؤسسي الهجرة ومطوريها، ورجل بهذه المثابة لمجتمعه، موته خسارة للجميع؛ لأنه من الرجال الذين لا يعيشون لأنفسهم فقط - وكان بوسعه فعل ذلك - بل اجتهد أن ينفع غيره، ولذلك من يوم وفاته، وأنا أردد بيتا أراه خليقا به، لعبدة بن الطبيب يرثي قيس بن عاصم:

فما كان قيسٌ هلْكُهُ هلكُ واحدٍ ولكنه بنيانُ قومٍ تهدما

بهذه الصفات وغيرها، كان ممتازا عن غيره، ولكنه امتياز بغير آفاته من كبر وعجب، فقد تجد شخصا يعجب به الناس ولا يحبونه، أما هو فقد حظي بإعجاب الناس وحبهم، واليوم أجدني وإخوتي نفقد كل ذلك، ولكن عزاءنا أن الذي رحل هو جسدك فقط، أما مآثرك الطيبة، وذكرك الحسن فهو باق لا يغيب، وحيٌ لا يموت، يعيش معنا ونتذكره ونتحدث عنه ونفخر به، وكأن نزارا يعبر عنّا يوم قال:

أماتَ أبوكَ؟

ضَلالٌ! أنا لا يموتُ أبي

هُنَا رُكْنُهُ.. تلكَ أشياؤهُ

تَفَتَّقُ عن ألف غُصْنٍ صبي

جريدتُه. (قهوته). مُتَّكَاهُ

كأنَّ أبي – بَعْدُ – لم يّذْهَبِ

وصحنُ الرمادِ.. وفنجانُهُ

على حالهِ.. بعدُ لم يُشْرَبِ

ونَظَّارتاهُ.. أيسلو الزُجاجُ

عُيُوناً أشفَّ من المغرب؟

بقاياهُ، في الحُجُرات الفِساحِ

بقايا النُسُور على الملعبِ

أجولُ الزوايا عليه، فحيثُ

أمرُّ .. أمرُّ على مُعْشِبِ

وأخيراً، نعدك أن نبقى أوفياء لهذا الذكر الجميل، وهذا الاسم اللامع، بأعمال وأخلاق تليق به.

أبي يا أبي .. إنَّ تاريخَ طيبٍ

وراءكَ يمشي، فلا تَعْتَبِ..

على اسْمِكَ نمضي، فمن طّيِّبٍ

شهيِّ المجاني، إلى أطيبِ

حَمَلْتُكَ في صَحْو عَيْنَيَّ.. حتى

تَهيَّأ للناس أنِّي أبي..

أشيلُكَ حتى بنَبْرة صوتي

فكيف ذَهَبْتَ.. ولا زلتَ بي؟

اللهم اجبر كسرنا بفراقه، واغفر له وارحمه، واجمعنا في مستقر رحمتك.