زيد الفضيل

جامعاتنا وسؤال الحيرة الإبراهيمي

السبت - 06 أغسطس 2022

Sat - 06 Aug 2022

صدر عن مجلس شؤون الجامعات برئاسة وزير التعليم الدكتور حمد آل الشيخ قرارا بتحويل كليات نظرية إلى كليات تطبيقية (صحية، وتقنية، وهندسية)، مع ترشيد القبول في البرامج الأكاديمية النظرية غير المتوافقة مع الخارطة الحرارية لحاجات سوق العمل، بهدف مواكبة البرامج التعليمية والتدريبية في التعليم الجامعي للتطلعات المستقبلية وتلبية الاحتياج الوطني وفقا لمهارات القرن الـ21م. هكذا تم إعلان نعي الكليات والأقسام النظرية في مختلف جامعاتنا الوطنية، التي يمكن أن يستمر بعضها في أضيق الحدود، والسؤال المطروح هو: ما هي وظيفة الجامعة؟ بل ما وظيفة التعليم أساسا؟

إن المتأمل لكل القرارات الصادرة عن وزارة التعليم منذ ابتداء مسيرة التحديث والتطوير الذي واكبها خلال الثلاثة عقود السالفة، يجد أنها فاقدة لأهم ركيزة فيها وهي انسجام الغاية من التحديث مع الغاية الرئيسة للتعليم، تلك الغاية التي قررها الآباء المؤسسون لحركة التعليم منذ السيد طاهر الدباغ وصولا إلى أول وزير للمعارف وهو الملك فهد بن عبدالعزيز ثم الشيخ حسن آل الشيخ يرحمهم الله جميعا، الذين حددوا الغايات الكبرى من التعليم، ليلبي الهدف الأسمى وهو بناء قاعدة متينة للمعرفة، وتربية أجيال على الخلق القويم، فكان أن نشأ جيل وراءه جيل مكتنز بثوابت المعرفة الأصيلة أسلوبا ومنهجا، وهو ما نشهده في جيل القنطرة من الأساتذة والمربين الكبار الذين تتلمذنا على يدهم.

على أن ذلك لم يستمر بحجة مواكبة التحديث وتطوير التعليم، وبدأنا منذ عقد التسعينات الميلادي في مسيرة لم تنته هدفها استجداء تجارب تعليمية من الشرق والغرب، التي لم يقتصر تأثيرها على متانة المقرر وجودته، وإدارة الصف، بل شهدنا استحداث فصل ثالث في السنة الدراسية يجري الحديث عن تعميمه في التعليم العالي أيضا، ودون هدف واضح من ذلك للأسف الشديد، فكان أن تاه المسير، وتضاءلت المعرفة مرحلة بعد مرحلة، وتقلصت الغايات التي أسسها الرواد، حتى صار الهدف هو مواكبة سوق العمل، والله المستعان.

أمام ما نحن فيه تخيلت حال أولادنا في المستقبل وقد أصبحوا مجرد أدوات في سوق العمل لكونهم فارغون من أي أساسيات لقواعد التفكير المنهجي التي تقوم على ركيزة التأمل، وتستند على مهارات التفكير الموضوعي وإثارة السؤال اللامفكر فيه أو ما نطلق عليه سؤال الحيرة والدهشة، ذلك السؤال الذي أثاره سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو يبحث عن ربه في الآيات من سورة الأنعام، وحتما فلم يكن نبي الله إبراهيم عاجزا عن معرفة ربه، بل هو مؤمن به فطرة واصطفاء، ولكن الله أراد أن يعلمنا من خلاله كيفية إثارة سؤال الحيرة لنصل إلى أول طريق الصواب. والسؤال الذي في خاطري هو: هل سيكون لهذا الإجراء وجود في حياتنا في ظل تقليص الكليات النظرية والتي تم تشويهها وتحميلها لب إشكالنا وعجزنا الوظيفي وتقدمنا الحضاري، بالرغم من أنها هي ذاتها أساس تقدم الغرب وتطوره الحضاري.

لقد جاءت أسئلة سيدنا إبراهيم عليه السلام لتضع قومه أمام مرآة كاشفة لحالة التضارب المنطقي في جوهر كل المسلمات البديهية التي آمنوا بها، ونحن بتخلينا عن مضامين آليات التفكير تلك، وركوننا إلى مفاهيم تستند على تكريس آلية الحفظ كنمط رئيسي في التفكير، وانسياقنا التام بعد ذلك إلى تبجيل ثقافة التعليم التقني البحت دون الاهتمام بتنمية ثقافة التأمل وإعمال التفكير العقلي، نكون قد ارتكبنا خطأ فادحا سنلمس نتائجه في المستقبل، وتلك هي سمات الرأسمالية الصناعية التي لا تريد إنسانا يتأمل ويفكر، بل أداة مهنية تقوم بعملها وفق برمجة محكمة لا غير.

وحتما فذلك لا يصنع حضارة متماسكة، ولا يؤسس لنهضة شاملة، إذ يحتاج المجتمع إلى الطبيب والمهندس والتقني الذي يمتلك قواعد «علم» وذلك عبر مختلف الكليات التطبيقية، وينطلق في أسس تفكيره من مرتكزات «عرف» عبر مختلف الكليات النظرية.

أخيرا فإن كان ولا بد فنحن في حاجة ماسة إلى إعادة تقويم دقيق لمحتوى كلياتنا النظرية التي ترهلت وابتعدت عن سياقها الصحيح، لا أن نقوم بتهميشها وصولا إلى إلغائها، فما أحوجنا لتعلم أفاق مدرسة التفكير وإمعان النظر والتحليل ومداومة القراءة التأملية الاستنباطية، والبحث بعمق في الدلالات والمآلات لمختلف الأشياء، وكم نحن بحاجة إلى توسيع مدارك وعي الإنسان لتشمل مختلف حواسه البصرية بالقراءة، والسمعية بالصوت، والإدراكية بالفهم، والعقلية بالتحليل، والاستنتاجية بالإبداع في تطوير ثقافة السؤال ضمن ثنايا معرفته. فهل يسع جامعاتنا وتعليمنا العام ذلك يا وزير التعليم؟

zash113@