عمر عبدالله السعدون

غلاة التكفير وغلاة التبديع

الخميس - 13 يناير 2022

Thu - 13 Jan 2022

إن موضوع الإيمان والكفر والفسق، والسنة والبدعة، والحكم بها على معين من المسلمين، أمر خطير ودقيق للغاية، وهو من المواضيع التي كثر فيها الجدل، وتعددت فيه الآراء، وكثرت فيه مقالات الفرق قديما من (الخوارج، والمرجئة والمعتزلة، والكرامية، والأشاعرة) وكثر الخلاف بين أهل الوعيد وأهل الإرجاء وبين أهل السنة والجماعة، وزلت بهذه المسألة الأقدام، قديما وحديثا، وهذه المسألة سميت بمسالة (الأسماء والأحكام)، والمقصود بالأسماء :المسميات والإطلاقات الشرعية (مسلم، كافر، فاسق، مبتدع) والمقصود بالأحكام: مآلات الإنسان في الآخرة والجزاء بالجنة أو النار، وهذه المسألة من مباحث العقيدة الإسلامية الكبيرة والخطيرة جدا، والتي يجب أن لا يقتحمها بالحكم على معين من المسلمين إلا جهابذة العلماء الراسخين، وفق قواعد وضوابط وتحقق شروط وانتفاء موانع.

ومن المعلوم أن أول خلاف وقع في هذه الأمة هو الخلاف في الفاسق الملي، قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب الاستقامة: (فأول مسألة فرقت بين الأمة مسألة الفاسق الملي فأدرجته الخوارج في نصوص الوعيد وخلوده في النار وحكموا بكفره، ووافقتهم المعتزلة على دخوله في نصوص الوعيد وخلوده في النار لكن لم يحكموا بكفره...) وعليه تباينت الآراء في الأسماء والأحكام عند الفرق، وأطلق عليها مسألة «الأسماء والأحكام» بالنظر إلى شمول هذا الاسم لجميع مباحثها.

ولا شك أن المنهج في التكفير والتبديع والتفسيق هو منهج واحد، فمن فسق معينا بدون تأصيل شرعي محكم فهو على منهج من بدع معينا بدون تأصيل شرعي محكم، وهو أيضا على منهج من كفر معينا بدون تأصيل شرعي محكم، ولذلك فإنه يتحتم على من يتجرأ على سلوك أحد هذه المسارات وقذف الناس بها والحكم عليهم بلا علم صحيح مؤصل على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة، لابد أن ينحرف به الطريق ويزل به اللسان ويبوء بإثم ذلك كما جاء في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما) متفق عليه، وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه) متفق عليه.

وقد كثرت في الأزمنة المتأخرة من سفهاء الأحلام الجرأة على تكفير المعين وتبديعه بلا ضوابط شرعية، وقد ابتلي العلماء والناس بمثل هؤلاء السفهاء الذين يتصيدون الأخطاء، وينبشون في الكلمات والعبارات بدون فهم ولا تحقيق، وبدون التحقق من وجود الشروط الشرعية التي يطلب الشرع تحققها، وانتفاء الموانع التي يطلب الشرع انتفاءها، لأنه من المتقرر شرعا أنه قد يوجد العمل الكفري أو البدعي ولكن لا يحكم على مرتكبه المعين لا بالكفر ولا بالابتداع لعدم تحقق شروط هذا الحكم ولوجود موانع تمنع من ذلك (كالجهل، والتأول، والإكراه، والخطأ) ولكن هؤلاء الغلاة تارة يبدعون المعين، وتارة يكفرون المعين، وهذه مقدمة لنتيجة متوقعة أدت بهم إلى استحلال الدماء التي حرمها الله بسبب استحلالهم لعرض المسلم والإيغال للتشكيك في نياته ومقاصده، فالذي كان ينتقده غلاة التبديع على إخوانهم غلاة التكفير من الجرأة على الأعراض والدماء قد وقعوا فيه أنفسهم، فلا عرض لمسلم عندهم مصان، ولا حرمة يقفون عندها، ولا عذر عندهم لمخطئ ولا متأول.

ووجدنا في بعض بلاد المسلمين التي ثارت فيها الفتن والفوضى (كاليمن، وليبيا وغيرها)، أن الذي كان يتهم جماعات (الغلو) القاعدة وداعش بالغلو بالتكفير والتقتيل، فإذا به يسلك نفس منهجهم بالغلو بالتبديع والتقتيل سواء بسواء، بل وينظم المليشيات المقاتلة ضد إخوانهم وبني جلدتهم من بلادهم، وهذا يؤكد أن المنهج المنحرف في «باب الأسماء والأحكام»، هو منهج واحد ونتيجته الحتمية واحدة وهي (استحلال الأعراض والدماء)، ولو اختلفت المسميات والقوالب، مع ما يجمع هاتين الفئتين من التشابه الكبير في السلوك والأخلاق وعدم عذر المخالف والمتأول، وهذا يبين خطر هذه الفئات الغالية على المجتمعات الإسلامية على دين وأعراض ودماء المسلمين حكاما ومحكومين، فوجب تعرية هذه الأفكار والمناهج وتوعية المجتمع بخطر هذه المناهج، ونصح أصحابها لردهم للجادة، ومعاقبتهم وتأديبهم إن لزم الأمر ممن ولاهم أمر المسلمين في البلاد الإسلامية، نسأل الله أن يعصمنا ويعصم بلادنا والمسلمين من الفتن ويرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يختم لنا بخير لا فاتنين ولا مفتونين.