عبدالحليم البراك

المقال المنطوق والمقال المكتوب!

الاثنين - 22 نوفمبر 2021

Mon - 22 Nov 2021

وأقصد بالمقال هنا، العلم بشكل عام، فالعلم المنطوق أكثر تأثيرا ووضوحا من العلم المكتوب، فضلا عن أنه تفاعلي، إلا أنه إنساني أيضا ويأخذ بعدا تعبيريا من خلال الفهم وعدم الفهم والسؤال والإجابة والإدراك والمعايشة، فكل هذه الأشياء تقف في صف المنطوق التفاعلي أكثر من المكتوب، والذي يمضي في طريق واحد.

وجرب موقفك من فكر الكاتب المكتوب، وفكره المنطوق، وأدائه أمام عينيك والفضيلة أو الرذيلة التي تقابله بها، فسيختلف الأمر كثيرا أو قليلا لكنه بالتأكيد مختلف.

ولذلك قيل «اقترب من مفكرك الذي تحبه أكثر حتى تكرهه» ذلك ألا تأخذ علمه فحسب بل تأخذ مع علمه إنسانيته وتفاعله.

ولك أن تجرب أيضا أن تعيش منطوق وحياة القدماء بنفس أجوائهم، سيختلف تلقي علومهم بمحض معرفتك بأحوالهم إن تلبست أجواءهم، وأبرز مثال أنصار الإمام ابن تيمية، وهم يدافعون عن فكره المتشدد مذكرين بأحوال عصره وحاله وصراعه، أما أولئك الذين حاسبوه وفق مكتوبه، فإنهم تلبسوا حال المكتوب ولم يتلبسوا حال المنطوق والعصر والعاطفة والروح الإنسانية التي صاحبت ذلك الفكر المتشدد والقلق، والذي له ما يبرره عند المعتدلين من أنصاره!

والكتابة أشبه بعلم الرياضيات -أحيانا- فهي نقاش وقاعدة ومثال «وعليها فسر»، أما المنطوق فهو حال طبيعية لا تستند للرياضيات ومدخل ومخرج، أو مقدمة ونتيجة بقدر تستند على دراسة الحال ومن ثم نقاشه في حال وسطية!

بل وركز التراثيون على مقولة «من كان دليله كتابه، كان خطأه أكثر من صوابه»، في إشارة واضحة للمشافهة والمعايشة والحال الإنساني مقدما عن النص الجاف المكتوب، وليس هذا حكرا على التراث وفكره، بل حتى الطب، إذ إن زمالة الطب تركز بالإضافة للاختبارات النظرية والعملية على المزاملة في المهنة القائمة على النقاش والحوار والاستشارة والمدارسة بسبب تداخل التخصصات من جهة ومن جهة أخرى على غلبة الحرفة والمهارة كمهنة للطب على غلبة مهنة العلم النظري!

كما يتسم المنطوق من العلم والمقال بالتناسق والتماشي، عكس المكتوب الذي يتسم بالتخصص العميق الذي يميل نحو كفة على أخرى يغالب فيها اعتداله من أجل لفت الانتباه إلى عمق التخصص وأهميته وفاعليته، وليس ثمة عيب، بل ثمة رؤية مزدوجة لا تميل للواحد بل تميل للتعدد في الرؤية.

وقيل قديما «إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، فبعض النصوص المزمع كتابتها يتراجع أصحابها عن كتابتها لأن منطوقها يضيق بكل العبارات الممكنة، إلا أن منطوقها أسرع في التدارك لإيجاد حالة التوازن في الرؤية من أجل أن تتسع أكثر فأكثر!

الغريب جدا، أن ما تتحدث عنه «المنطوق» يتلبسك ويكون جزءا منك ولا ينفصل عنك حتى قيل «من أكثر من شيء، عرف به»،

كل هذا لا يجعلنا نميل كل الميل نحو المنطوق على المكتوب، فالكتابة لها فضائلها هي الأخرى، فلولا المكتوب لما وصلنا لهذه النتيجة، وما نقل العلم وما خلق النقاش والحوار وتطورت علوم الأخلاق والفلسفة والعلوم الأخرى إلا بالمكتوب الذي هو الأكثر بقاء، لكن إعادة هيبة المنطوق ربما هذا يعيد إليه أهميته لمنصة التفكير العلمي.

Halemalbaarrak@