هند علي الغامدي

التنمر اللغوي

الخميس - 04 نوفمبر 2021

Thu - 04 Nov 2021

رغم الاختلاف حول مفهوم التنمر، إلا أنه من المتفق عليه أن التنمر يتضمن الاعتداء والإساءة بشكل أو بآخر، وعلى كل فالتنمر الذي يعنينا في هذا المقام هو تنمر اللغة أو تنمر الآخرين من خلال اللغة.

والتنمر اللغوي أو اللساني قد يكون على مستوى اللغات أو اللهجات، وقد يكون فرديا أو جماعيا، طبقيا أو عنصريا، وطنيا أو إقليميا أو دوليا، ومع ذلك فهو لا يخرج في مجمله عن كونه شكلا من أشكال الإساءة، أما التنمر على مستوى اللغات؛ فأقرب مثال له ظن البعض منا أن حب اللغة العربية والاعتزاز بها دعوة مبطنة أو صريحة إلى احتقار ما سواها، والدعوة إلى نفيه أو هجره بكل حمولته الثقافية والحضارية والإنسانية، وترك تعلمه، أو تعلمه مع الاعتقاد بدونيته، والاعتقاد أن إتقانه أمن من مكر أهله.

والواقع أن اعتزازنا بالعربية منبعه تشرفها بكونها لغة القرآن والسنة، ثم كونها لغة الوطن، لا من أفضلية في ذاتها كلغة، فكل اللغات مقدرة عند أهلها، ثم يأتي ما تحمله من علوم وحضارات ليزيدها ألقا وقوة وانتشارا، وقد بين الله -عز وجل- أن اختلاف الألسنة آية من آياته، حين قال تعالى: ﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذٰلك لآيات للعالمين﴾، وبين -سبحانه- أنه أرسل الرسل بألسنة أقوامهم في قوله تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم﴾، ثم ختم الرسالات بالرسالة المحمدية وشرف اللغة العربية بحملها، هذا كل ما في الأمر.

ولكننا نسمع بين الحين والآخر من يقول إن العربية لغة أهل الجنة، وإن العربية أفضل اللغات، وإن العربية لسان آدم، ويسوقون دلائلهم على ذلك، ولا ريب أن لغتنا العربية هي أحب وأشرف وأعظم اللغات في نظرنا، كما أن الفرنسية كذلك في نظر أهلها، والإنجليزية كذلك، ولكن من الناحية العاطفية فقط، أما العلم الذي يدرس اللغات أو الألسن؛ فيعدها شكلا من أشكال التعبير، ولا يفاضل بين لغة وأخرى؛ وعليه -ونحن في عصر العلم- هل تعد تلك الأقوال التفاخرية تنمرا على غيرها من اللغات؟ هل التباهي بسماتها ومعجمها وأصواتها وقواعدها وتراكيبها وصورها ومجازاتها -استعلاء- يعد تنمرا؟ هل التحدث بالعربية مقياس تكريم في ظل قوله تعالى: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، وماذا إذا كان من يتحدث بها جانيا، هل تعفيه كرامة حديثه بالعربية من العقوبة؟

هل يؤلمنا أن يتباهى أهل الإنجليزية مثلا بأنها أقوى اللغات؟ هل يوغر ذلك صدورنا؟ ثم هل يقلل كون اللغة الإنجليزية لغة العلم والبحث والتقنية حاليا من حبنا للعربية واعتزازنا بها؟! الأمر متبادل، والنظرة العلمية للغة هي فقط التي يمكنها أن تفك هذا الإشكال.

علينا إذا أن نغرس في أبنائنا الاعتداد بالعربية وحبها والانتماء إليها مع احترام ما عداها، وأن احترام الآخرين ولغاتهم هو رسالة السلام التي نقدمها لأنفسنا قبل أن نقدمها للآخرين.

الأفراد كذلك قد يصرون على الحديث بالعربية في وسط لا يتحدث بها، في غير محفل دولي يكون الحديث فيه بها ضروريا لسيادتها وعالميتها، فهل حين نصر على الحديث بها مع من لا يحسنها نكون قد وقعنا في التنمر على لغته، وانسحابا عليه حين تركناه بلا فهم كامل مع قدرتنا على إفهامه بلغته؟

وهذا يحدث أيضا في بعض المجتمعات التي ترفض أن تتحدث العربية مع عربي لا يجيد غيرها، وتتركه في وضع مزر يتوسل الكلمات في موقف أو آخر، فهل هذا تنمر؟

أما تنمر أبناء العربية الفصحى عليها، فحدث بحرج عن إهمالها وهجرها، وتفضيل غيرها عليها، وعن تشويه جمالها وتكدير صفائه.

لم تسلم اللهجات أيضا، فبعض اللهجات جميلة وبعضها مدعاة للسخرية، لماذا؟ لأن الطبقية شكلت هذه النظرة؛ فتلك لهجة جماعة متفوقة أو ذات مكانة اجتماعية عالية أو لهجة المدينة، والأخرى لهجة البسطاء؛ ربما ممن لم ينالوا قسطا من التعليم أو الاحتكاك الحضاري، أو ممن لم يغادروا القرية يوما، هذا التفريق قد يجعل صاحب اللهجة يهجرها؛ قناعة بدونيتها، أو لأنها تعرضه إلى السخرية، وربما يهجرها إلى لهجة جماعة أخرى متفوقة؛ انبهارا بها، أو ليعد منهم، أو ربما يهجرها إلى ما يسمى اللهجة البيضاء التي لا تظهر فيها ملامحه اللهجية، فهل ما دفعه إلى ذلك هو التنمر؟ وهل السخرية من تلك اللكنة التي تبدو في لغة أو لهجة أحدهم منبئة عن منطقته التي ليست في إطار التقييم الإيجابي للغات واللهجات تعد تنمرا؟

إن الحكم على اللهجات قديم، وقد حكم اللغويون الأوائل على بعض لهجات العرب بالرداءة أو القبح أو الشذوذ، ولم يدخلوها في عملية التقعيد اللغوي، أليس هذا إقصاء، والإقصاء أحد أشكال التنمر؟

وكذلك تقييم اللغات أو اللهجات تقييما سلبيا من خلال متحدثيها أو العكس، أليس تنمرا؛ حين يقال لغة إرهابية أو لغة الإرهابيين، لغة غير مهذبة، لغة خائفة، لغة متخلفة..؟

هناك دراسات تشير إلى أن الجماعات اللغوية المسيطرة في مكان ما سياسيا أو اقتصاديا أو تقنيا تقيم الجماعات اللغوية الأقل منها تقييما سلبيا ينعكس على هذه الجماعات؛ لتقيم نفسها بعد ذلك التقييم السلبي نفسه، إلى درجة أن يهجر أفرادها لغتهم الأم ولاسيما الأطفال إلى لغة الأكثرية المسيطرة؛ هربا من التنمر.

ولعل من نافلة القول الإشارة إلى عراقة التنمر اللغوي الفردي والجماعي في المجتمعات العربية؛ فنظرة إلى شعر الهجاء قديما، وأخرى إلى وسائل التواصل حديثا تغني عن كثير، وتعطي فكرة واضحة عن توارث هذا الداء العضال وانتشاره.

هل قدر اللغات أن تعيش قانون الغاب؟ أم إن الإنسان الذي جبل على التفاخر والتسلط يسقط مشاعره على كل شيء حوله بما فيه اللغة؛ فيفقدها الأمن ويعيشه معها؟

إن التنمر نوع من أنواع الإرهاب يتعارض مع الأمن الذي هو الحاجة الأولى من حاجات الاكتفاء والسعادة الدنيوية التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو بأنواعه، والتنمر اللغوي منه خاصة، يتعارض مع كل أشكال التقدم والحضارة، ومع تعاليم الدين الإسلامي السمحة التي تدعو إلى التعارف والتواصل الحضاري بين الأفراد والجماعات والقبائل والشعوب بألسنتها المختلفة.

hindali1000@