بندر الزهراني

قلبي الصغير لا يحتمل «الدعس»

السبت - 18 سبتمبر 2021

Sat - 18 Sep 2021

يقال «إن العقل المتميز يكوّن لصاحبه حسادا بينما القلب الممتلئ عاطفة يكوّن له أصدقاء»، وهذا القول على بساطته وسطحيته إلا أنه يبدو صحيحا إلى حد كبير، فالأذكياء على مر العصور تعرضوا للتنمر والأذى، ولولا قلوب العشاق المرهفة بالإحساس المتدفق ما عرف للحب أثر، ولو تفوق العقل والقلب معا أو كان تفوقهما بشكل تبادلي لربما تكونت لدينا حالة فريدة من التميز في نضوج العقل واتزان العاطفة، فالمولى جل في علاه يقول: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها).

العقل والعاطفة ركيزتان أساسيتان في تكوين شخصية الإنسان، والمزاوجة بينهما تعطي هجينا طبيعيا من السلوك المتزن، كما أن الناس بطبيعتهم البشرية يتفاوتون في ضبط مؤشر التوازن ما بين العاطفة والعقل، فقليلون أولئك الذين يضبطون كل أفعالهم ورداتها بضابط العقل والمنطق، وقليلون أيضا أولئك الذين يضبطون جبروت العقل وطغيانه وتمرده بالمودة والرحمة والعطف والحنان، والأكاديميون ليسوا بمنأى عن قوة العقل وضعفه أو هيمنة العاطفة وميلها.

فعلى سبيل المثال، قبل أيام انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقطع مصور لأستاذ جامعي وهو يتندر مع طالباته بعاطفة غير متكلفة، ويعتقد أن إحدى الطالبات أرادت أن تكسب موقفا معنويا لزميلاتها، فسألته أن يخفف عنهن من التكاليف والواجبات، فجاءهن بأكثر مما توقعن، وهذا ما دعاهن لتسجيل كلماته ونشرها خاصة وهو يذم الطلاب في مقابل مدحه لهن، وهذه الحادثة البسيطة قد تحدث في كل الجامعات، ولا يلتفت إليها، وقد يحدث ما هو أسوأ منها -على افتراض أنها سيئة- والإشكالية ليست في الحادثة نفسها؛ لأنه ليس فيها ما يخدش الحياء أو يسيء للآخرين بشكل متعمد، وإنما في ردة فعل إدارة الجامعة التي قيل إنها أوقفت الأستاذ للتحقيق معه، وهنا وقعت العاطفة بلا حول ولا قوة في قبضة وجبروت العقل المتسلط!

ويقال إن إحدى الأستاذات اتصلت بوكيل جامعتها تسأله عن أسباب تأخر ترقيتها، ولما لم يرعها انتباهه قالت له: أنا فلانة، فرد عليها بلكنته الحجازية الرقيقة قائلا: وهل يخفى القمر! فارتبك القمر واحمرت وجنتاه وتنافضت أطرافه، ومن شدة ما أصابها من الدهشة والذهول أغلقت الهاتف في وجهه، ثم بعد أن تمالكت أعصابها عاودت الاتصال به، تستفهم عن سر تأخر ترقيتها، ولسان حالها يقول ما قاله الشاعر المصري أمل دنقل: وتناقلوا النبأ الأليم على بريد الشمس في كل مدينة: قُتل القمر!

أحد الزملاء يقول: كنت أحضر حفلا في إحدى الكليات، وبينما كنا جلوسا ننتظر دخول راعي الحفل دخل قبله طبيب معروف، فقوبل بهتافات ترحبيبة حارة من جهة الطالبات، فما أن هدأ الوضع واستقر حتى صعد إليه على خشبة المسرح مجموعة منهن، فسلم عليهن وأخذ اثنتين بالأحضان، كانتا تقبلان رأسه ويديه، ثم يقول: وكان بجواري رجل غيور وشديد، أخذ يلعن الطبيب ويلعن اللبراليين معه، فلما انتهى الحفل علمت أن الفتاتين هما حفيدتاه ولم يرهما من مدة طويلة لسفره وانشغاله! يقول: فعدت إلى الرجل الغيور أخبره بذلك لعله يستغفر لذنبه، فلما أخبرته قال: لو قعدوا كما قعدنا ما لعنوا.

مثل هذه الحوادث وغيرها الكثير لا يمكن أن تصنف إلا خارج سياق النص المألوف، لا أكثر، أو ضمن طغيان العاطفة وتغييب العقل، أو العكس، وفي كل الأحوال يجب أن نحاول ضبط مشاعرنا قدر المستطاع وكبح جموحها بعقول واعية ومتنورة، وكذلك يجب ألا نجرد العقل من العاطفة فتبدو تصرفاتنا دكتاتورية الطابع أو متطرفة الأحكام، ولا ينبغي أن نقسو على أنفسنا أو نميل إليها كل الميل، لا بالقول ولا بالفعل، فكم من طالب رقيق الشعور لسان حاله يقول: قلبي الصغير لا يحتمل «الدعس» يا دكتور!

drbmaz@