بندر الزهراني

ماذا لو كان رئيس الجامعة مفكرا وفيلسوفا!

السبت - 07 أغسطس 2021

Sat - 07 Aug 2021

جامعاتنا الحكومية مؤسسات تعليمية حيوية، استقلت مؤخرا بالنظام الجديد للجامعات، ولكنها بقت ذا طابع غير ربحي، ترعاها الدولة وتنفق عليها سنويا مليارات الريالات، والدولة في هذا الميدان تنفق بسخاء منقطع النظير، وتعطي عطاء الباذل الكريم، لا تلحق بذلها وعطاءها منا ولا أذى، وهدفها الأسمى أن تكون هذه الجامعات صروحا استثنائية للعلم والمعرفة، ومحاضن حقيقية للفكر والفلسفة، ومراكز تكوين للعلماء والأدباء وملاذا لرواد الإبداع والابتكار، ولكن الأموال وحدها لا تكفي، ولا تصنع مجدا، ما لم تكن هناك عقول إدارية موهوبة بالفطرة، وعلى مستوى عال من الفكر، والتحضير العلمي، والتهيئة المهنية، والتجربة والخبرة، تقود هذه الصروح العلمية بكل كفاءة واقتدار.

من حيث المبدأ، قد لا نختلف كثيرا على أن الشخصية الأكاديمية و«الكاريزما» الإدارية لرئيس الجامعة، وكلماته الخطابية، ومداخلاته الإعلامية، وفلسفته وفكره بشكل عام هي في الواقع بمثابة الانطباع الأول الذي يتشكل لدى الناس عن الجامعة، وعن أسلوب عملها، دون أن يستغرقوا وقتا طويلا في التفاصيل، فالرئيس هو قلب الجامعة النابض، بل هو روحها التي تسري في كل أرجائها، ولذلك كان لا بد أن يكون شخصية استثنائية في كل شيء، وذا حضور لافت ومميز، لا مجرد أكاديمي عادي خدمته الظروف والمصالح، فوجد نفسه بين عشية وضحاها متربعا على كرسي الرئاسة!

ولذلك كلما كان الرئيس ووكلاؤه من رتبة الفلاسفة والمفكرين قامت الجامعة بدورها على أكمل وأتم وجه، سواء كان ذلك في عمليات التدريس والتعليم أو في الالتزام بأخلاقيات البحث العلمي وأدبيات النشر أو حتى في إبراز أنشطتها لخدمة المجتمع ونماء أفراده معرفيا وثقافيا، وبالتالي تتحقق الأهداف والإنجازات العلمية الحقيقية، واحدة تلو الأخرى، وتتبلور بشكل إيجابي مكانة المملكة بين الأمم، المكانة التي فعلا نستحقها، ونستحق عليها الإشادة من الأنداد والأضداد قبل الأصحاب والشركاء، وننال بها الاحترام والتقدير من المنافسين قبل المحبين.

وفي المقابل إذا لم يوفق رئيس الجامعة أو أخفق في علمه أخفقت معه كل الإدارات الأكاديمية، وتراجعت في أداء أدوارها الوظيفية، وفشلت في القيام بعملها الطبيعي، وكانت على غير ما تكون عليه نظيراتها من الجامعات العالمية، فيرتد أثر ذلك سلبا، ويصبح الإنجاز عارا، والطموح قبحا وشنارا، وتذهب سدى كل الجهود والطاقات، وتضيع الفرص والاستحقاقات، ولا يظهر للسطح إلا الفقاعات الإعلامية المحيطة برئيس هذه الجامعة أو تلك، وبالتالي سرعان ما تتلاشى وتضمحل الأفراح المصطنعة والمزيفة بالنجاحات الشكلية في سماء الغافلين!

يقول أحد الأكاديميين «إنه كتب لرئيس جامعته خطابات رسمية متتالية، في موضوعات متنوعة، تخصه وتخص بعض زملائه، فلم يحرك الرئيس ساكنا، ولم يكلف نفسه بالرد عليها، ثم حاول الاتصال بمكتبه مرارا وتكرارا وفي أوقات مختلفة، ولم يجد ردا، فشكى لزملائه غيبوبة الرئيس وفقدانه مقومات استمراره وبقائه، وعدم مبالاة موظفي مكتبه، وقال: جامعتنا بلا رئيس إلا في المناسبات وأمام الكاميرات، فضحك زملاؤه وقالوا: ربما الرئيس غاضب مما تكتب له من آراء وملاحظات! فقال: إذن أخبروه (بينكم وبينه) أنه لو كان شجاعا في الحق أو عنده حجة داحضة أو وجهة نظر معتبرة لرد بها، ولولا أن فاقد الشيء لا يعطيه لما عذرته على ما هو فيه!»

مثل هذه القصص الواقعية تؤكد أن رئاسة أي جامعة محلية، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، والقيام على إدارة مشاريعها واستثماراتها وخططها الاستراتيجية وكلياتها ومرافقها العامة أمانة وطنية عظمى، أمانة وطنية في عنق كل رئيس، وكل موظف شريف، ولأنها كذلك كان لازما على رئيس الجامعة أن يكون على قدر كبير من الإحساس بالمسؤولية، والتحلي بالصدق، وحفظ الأمانة، ومراعاة حقوق الناس، والنظر في طلباتهم والسعي في حاجاتهم، لا الإعراض والصد عنهم، والتعالي عليهم، فما جُعل الرئيس في هذا المكان إلا لخدمة الناس، ومن كان على خلاف هذا فهو خارج أوركسترا النجاح والتميز، بل خارج الخدمة!

وكنت قبيل كتابة مقالي هذا أتحدث مع صديق عن موضوع المقال، فقال لي ضمن نقاش طويل: «يا أبا خالد أنت تحكم بمعايير عالية ودقيقة جدا، وتريد رئيس جامعة في مستوى غازي القصيبي أو يزيد عنه، وهذا مستحيل، ومن الصعب إيجاد هذا النوع من الإداريين، فالإدارة كما تعلم فن له رواده ومبدعوه، وقد يكون هذا الزميل محقا، ولكنني لا أرى استحالة وجود إداريين من طراز رفيع وخاص، كما كان الراحل القصيبي أو ربما أفضل، ففي جامعاتنا من الملهمين عدد كثير، ولا أرى مانعا لظهورهم إلا اشتغال المكان بغيرهم اشتغالا تتعذر معه كل محاولات التغيير».

صدقوني لو كان رئيس الجامعة فيلسوفا معتبرا، وصاحب فكر أصيل، أو على أقل تقدير له رأي معتبر ووجهة نظر مقدرة، لكانت الإنجازات العلمية إنجازات أصيلة، والجوائز والتكريمات ذات جودة عالية ومصداقية كبيرة، ومراكز التصنيف حقيقية لا وهمية أو مرحلية، وإذا ظهرت للناس كانت واضحة جلية، يتحدث عنها الإعلام مفتخرا بحديثه عنها، لا مهزوزا أو مأزوما، فهي التي يبقى أثرها، ويمتد ذكرها، وينتفع الناس بخيرها، وأما ما عدا ذلك فسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

drbmaz@