عبدالله الأعرج

صراحة الوزير أم دبلوماسيته!

الاحد - 11 يوليو 2021

Sun - 11 Jul 2021

لا يمكن بحال إنكار قيمة الدبلوماسية الوزارية في أفعال وأقوال القائمين بها من معاشر الوزراء ونوابهم في الصف الأول من ديوان الوزارة.

ولو اتفقنا على أن تعريف الدبلوماسية في أسوأ حالاتها هو ما قاله ونستون تشرشل - رئيس الوزراء البريطاني الأشهر - «الدبلوماسية هي قدرتك على أن تطلب من الناس أن يذهبوا إلى الجحيم بل ويسألونك عن أفضل الطرق المؤدية إليها»، وفي أحسن حالاتها ما قاله مواطنه ديفيد فروست - الكاتب والمقدم البريطاني - «الدبلوماسية أن تجعل شخصا ما يتبنى موقفك».

لو اتفقنا على هذين التعريفين فإننا سنلحظ أن مشتركا بينهما مفاده أن الدبلوماسية في مجملها مبنية على القدرة على الإقناع، والعمق في التبرير، والبراعة في الإثارة المقصودة طلبا لخلق موقف معين تجاه أمر ما لا يحظى عادة باتفاق جماعي أو يكون محل إثارة للجدل! ولذلك فإن الحروب والصراعات عادة لا تشتعل فتائلها إلا بعدما تفشل الدبلوماسية في إيصال صوتها كما قال السياسي الديمقراطي الأمريكي (جون دينقيل)!

وبالرغم من قيمة الدبلوماسية في تضميد بعض الجراح تماما كما يفعل الطب التلطيفي palliative medicine الذي يصفه الأطباء لمن لا يرجى برؤه فإن الدبلوماسية المضللة تعقبها غالبا مشاكل تستطيل في كل اتجاه، وتتفاقم كلما انفرطت خرزة من عقد المصداقية والموثوقية والاعتمادية المرجوة فيها لدى المستهدف والمستفيد!

أقول كل هذه المقدمة ولست بصدد الحديث عن موضوع سياسي بقدر ما أنا هنا لأستفيد من مفهوم سياسي وعسكري واقتصادي واجتماعي اسمه (الدبلوماسية)، وكيف أن هذا المفهوم في العمل الإنساني إجمالا قد يكون محمودا وربما كان مذموما وفقا لطبيعة المهمة ونوع الأداء!

ففي العمل الوزاري الوطني المعاصر مثلا أصبحنا بكل أمانة نقف أمام شواهد واضحة جدا لم تكن معهودة من قبل تتحدث بصراحة حول مواضيع قلما توصف بأنها (مفصلية) في العمل الوطني التنموي بدءا من قيادة الوطن والخطابات الصريحة حول أين نقف؟

وإلى أين نريد أن نتجه؟ وما هي الأدوات التي نملكها في تلك الرحلة؟ وإلى أي حد يمكن لهذه الرحلة أن تكون سهلة أو وعثاء وشاقة؟ هذه الشفافية ظهرت في مقابلة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهذه اللغة تجلت كذلك في أحاديث ولقاءات وخطابات ومقابلات عدد من الوزراء ونوابهم.

وزير المالية مثلا كان شفافا في خطابه إبان الأيام العصيبة لجائحة كورونا وتخلى عن الدبلوماسية حينما قال إن الخيارات (الصعبة) التي تبنتها الدولة هي لجعل الحياة (سهلة) مستقبلا، وإن ما تم من قرارات مالية صعبة كان لتفادي ما هو أكثر صعوبة وألما للجميع بدون استثناء!

وزير الصحة أيضا تحدث - بعيدا عن الدبلوماسية - وبلهجة أخوية صادقة للمواطنات والمواطنين وأخبرهم أن المعركة ضد كوفيد - 19 ليست سلاحا تشنه وزارة الصحة منفردة بمعزل عن تعاون المواطن والمقيم، وأن الكلمة في نهاية المطاف هي للالتزام والاحتراز والامتثال من الناس قبل أن تكون للمستشفيات والمراكز الصحية!

وزير التعليم قبل أيام لم يأبه بالدبلوماسية المذمومة وقالها بمنتهى الوضوح والحكمة إن الاعتمادات الأكاديمية التي تحصل عليها مؤسسات التعليم الجامعي والمهني لا تمثل قيمة تذكر إذا لم يكن لها انعكاس وتأثير حقيقي على المجتمع، كما تحدث في أكثر من مناسبة عن أن نواتج التعلم أهم بكثير من كمية المدخلات، وأن جودة المخرج وكفاءة المناهج ومراجعة ما لا يتوافق مع روح الرؤية أمر غاية في الأهمية!

هذه النماذج أعلاه المنتفضة على لغة الدبلوماسية غير المحمودة جاءت من قيادة الوطن الكبير ومن خلال وزراء في ثلاث وزارات حيوية في أي دولة وهي: المال والصحة والتعليم، مما يعكس قناعة تامة وعملية لدى صانع القرار أن الشعوب جزء لا يتجزأ من ملحمة التنمية، ولكي يكون المواطن كذلك فإن اطلاعه على ما يتم في مصنع القرار التنموي يعد أولوية لدى القيادة يبنى عليها مستقبل أكثر إشراقا وأوفر حظا وأقل اصطداما بالواقع وهو ما تم بالفعل في السنين الأخيرة.

أعود لأقول كلمة لكل من ولي أمرا من قيادات العمل ولمن لا زالوا مؤمنين بالتخدير الموضعي تحت مسمى (الدبلوماسية) أو (الفهلوة) أو (الفذلكة) أو سمها ما شئت، إن الصدق والوضوح والشفافية هي القيم المثلى في مسيرة العطاء للأوطان، وإن الإنجاز لا يتعارض مع الأمانة الوظيفية وليتذكر أمثال هؤلاء أن التاريخ ما زال يثبت أن الأكثر صدقا هو الأدوم بقاء، ولذلك فإن توالي الأحداث، وتعاقب المؤمرات، وكثرة الحملات المغرضة والمشوهة لم يكن لها يوما أن تنال - ولو نزرا يسيرا - من شموخ وثبات الدول المعتدلة والمتزنة والصادقة قولا وفعلا.

وأختم بقصة قصيرة حول قيمة الدبلوماسية المحمودة وليس الساذجة للسير (هنري ووتن) والذي كان السفير الأول للملك الإنجليزي (جيمس الأول)، أرسله عام 1604م (القرن السابع عشر) إلى فينيس وكان مفهوم الدبلوماسية آنذاك مرتبطا إلى حد كبير بالتمويه والخديعة، بيد أن السيد ووتن كتب في دفتر الزيارات وهو يغادر المنزل الذي كان يسكن به في آخر أيام عمله «بعد كل هذه الأيام أيقنت أن الصدق والصراحة هما أعظم دبلوماسية»، وهو القول الذي ما زال يستشهد به في العمل الدبلوماسي كثيرا كدلالة على أن القيم العليا تظل شامخة في كل زمان وتحت أي ظرف وفي أي مكان!

dralaaraj@