عمر عبدالله السعدون

أساس الأزمات الاقتصادية

الاثنين - 21 يونيو 2021

Mon - 21 Jun 2021

لقد جاءت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع واضحة في تحريم الربا والتشديد في ذلك، قال تعالى «الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله، ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم»، قال ابن عباس رضي الله عنه «آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق».، وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال «لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء»، أخرجه مسلم. واللعن هو (الطرد والإبعاد من رحمة الله)، إن هذا النهي والتحذير الشرعي الشديد يوضح خطورة الربا الشرعية، وما يؤدي له من مفاسد خطيرة على الأفراد والمجتمعات، والمؤمن يلتزم بأمر الله وينقاد له، ويمتنع عن ما نهى الله عنه ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إيمانا بالله وتسليما لأمره ونهيه بمجرد ورود النص، حتى ولو خفيت عليه كثير من المصالح أو المفاسد؛ لأنه على يقين في إيمانه بأن كل ما جاء به الشرع هو لتحقيق المصالح ودفع المفاسد، وسنحاول في هذا المقال الغوص للبحث عن بعض المفاسد من الربا على الاقتصاد العالمي، ومعرفة عظمة الإسلام في أوامره ونواهيه والذي يعظم في كل زمان ومكان وصالح لكل زمان ومكان، عقيدة وشريعة، ومن أجل خصائص هذا الدين العظيم أنه كله من عند الله وهذا كفيل بحفظه وإحكامه، وإتقانه وشموليته، وعدم اضطرابه واختلافه في كل زمان ومكان، بل ويرسم المنهج لنا في الدنيا والآخرة؛ لنسير عليه ولديه الحلول الناجعة لكل مشاكلنا، قال تعالى «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»، ولو سار العالم على إلغاء الربا وبيوع الغرر والظلم المحرمة من اقتصادياتهم ومعاملاتهم المالية لنجا الاقتصاد العالمي من الأزمات المالية التي تجعله مضطربا مأزوما كما حصل مؤخرا في 2008 وما قبلها من أزمات اقتصادية كبرى. والسبب الرئيس في كل هذه الأزمات هو:

( عدم معرفة حقيقة المال «النقود» وما هو الدور المطلوب منه)

ولقد وضح هذه الحقيقة أحد أعلام الإسلام التابعي الجليل الحسن البصري المتوفى سنة 110 للهجرة بقوله «بئس الرفيقان الدينار والدرهم لا ينفعاك حتي يفارقاك»، إن هذه العبارة الموجزة توضح حقيقتين مهمتين: الأولى: إن المال ليس مقصودا لذاته، بل هو وسيلة للوصول إلى مقاصد أخرى. الثانية: إن المال لا تحصل أي فائدة ببقائه عندك، وإنما تكون فائدته إذا انفصل عنك لتتوصل به إلى تحقيق مصالح أخرى بشراء ما ينفعك من مأكل ومشرب وملبس ونحوه.

وقال الإمام أبو حامد الغزّالي المتوفى سنة 505 للهجرة في كتابه إحياء علوم الدين موضحا حقيقة النقدين وما ينبغي العمل بهما «من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير، وبهما قوام الدنيا، وهما حجران لا منفعة في أعيانهما.. فخلق الله الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال (السلع).. فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي، ويكونا حاكمين بين الأموال (السلع) بالعدل... فكل من عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم لخلقهما، بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله -تعالى- فيهما... وكل من كنزهما فقد ظلمهما، وأبطل الحكمة فيهما... وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم، والدنانير فقد كفر النعمة؛ لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسيهما... فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد، فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله، فيبقي النقد مقيدا عنده... فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصودا للادخار، وهذا ظلم»، ويقول الفقيه العلامة الشيخ محمد تقي العثماني «النقد باعتبار ذاته لا يحمل من جوهرية حق الانتفاع أية قيمة أو قدر من الأهمية، ولهذا لا يفيدنا ما لم يفارقنا، وتظهر فائدته عند أدائه بصفته ثمنا لغيره، وبدلا لشيء يحمل نفعا حقيقا فعليا»، وقال الإمام ابن تيمية -رحمه الله- المتوفى سنة 728 للهجرة «ولكـن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودا مضبوطا، لا ترتفع قیمته ولا تنخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسـلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سـلع، والحاجة إلى أن يكون للناس ثمن يعتبرون به المبيعات حاجـة عامة... ولو أبيحت التجارة في الأثمان مثـل أن يبيع دراهم بدراهم إلى أجل لصارت الدراهم سلعة من السلع وخرجت عن أن تكون أثمانا... وهذا معنى معقول في الأثمان مختص بها»

وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله- «... فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوسـل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسـها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس».

وقد ذكر العلامة محمد تقي العثماني -نائب رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي- في ورقته المقدمة إلى المنتدى الاقتصادي العالمي، ومقره في سويسرا، وذلك بطلب منهم للبحث عن حلول للأزمة الاقتصادية العالمية في الإسلام، ويستضيف هذا المنتدى كل سنة رؤساء دول ووزراء مالية وكبار رجال الأعمال حول العالم، وقال في الورقة الطويلة ومنها «إن جميع خبراء الاقتصاد الذين ظهروا بعد الإمام الغزّالي -رحمه الله- قد اعترفوا أن النقد(money) وسيلة للتبادل (medium of exchange)، ومع الأسف نقول «إن أكثرهم لم يتناولوا دراسة هذه النظرية على النحو الذي يوصلهم إلى نتيجتها المنطقية الحتمية، حيث إن هؤلاء نجدهم يؤمنون بأن النقد وسيلة للتبادل، ومن ناحية أخرى تراهم يصرفون النظر عن الفوارق الأساسية بين طبيعة النقد (money) وطبيعة السلعة (commodity)، ويتعاملون مع النقد على أنه سلعة..... فلا يمكن في نظر المنطق والعقل أن يكون النقد سلعة، وذلك أن الأشياء تتوزع إلى نوعين حسب التقسيم الاقتصادي».

الأول: السلع الاستهلاكية.

والثاني: السلع المنتجة.

والنقد لا يدخل في واحد منهما إذ إنه لا يستعمل، ولا يستخدم بنفسه مباشرة؛ لأنه لا يوجد له استخدام طبيعي، وكذلك فهو ليس من الأشياء المنتجة بنفسه فهولا ينتج شيئا.

وأما الذين عدّوه من الأشياء المنتجة، فليس لديهم سواطع الدلائل وقواطع البراهين لإثبات دعواهم....وإذا قمنا باستعراض وتحليل الأسباب الجذرية لهذه الأزمة المالية في ضوء ما سبق لنا أن ذكرناه، فإنه يتبين أن هناك عدة عوامل للأزمة الاقتصادية أهمها:

1ـ تحويل النقد من وظيفته الأساسية كونه آلة للتبادل إلى استخدامه كسلعة تجارية مطلقا دون قيود أو حدود، وهذا العامل الحقيقي الذي تسبب في إنشاء الجشع لازدياد كسب النقد بالنقد، وجعل الاقتصاد بأكمله في بالون الديون المنضّدة، فالحل الأمثل لتجنيب العالم بأسره الوقوع في هذه النتائج المروعة والخطيرة هو فرض الحظر التام على تجارة النقد في حد ذاته وعدم اعتباره سلعة تجارية... وعلاوة على ذلك فإن واحدا من المتطلبات الأساسية لتقييد النقد بوظيفته الأساسية هو (وجوب إلغاء الفائدة الربوية) من أنشطة التمويل (financing)، ويمكن تحقيق ذلك بالتفكير بجدية لإعادة تشكيل نظامنا المالي على أساس المشاركة العادلة في الأنشطة الإنتاجية، وتقليل المعاملات المستندة على الديون.

2 ـ (بيع الديون) فإنه كان واحدا من أهم الأسباب الرئيسة لهذه الأزمة المالية.. وهي من الربا المحرم. مما أدى إلى تضخم الديون وزيادتها أضعافا مضاعفة بما يخالف حقيقة الدين وأصله، وذلك بسبب تداول الديون بالبيع من جهة إلى أخرى.

3 ـ (بيع ما لا تملك) إن من أكبر عوامل الأزمة الاقتصادية بعد الربا هو بيع ما لا تملك الذي يسمى (المبايعات القصيرة) في الأسهم والسلع والعملات، التي لا ملك حقيقي لها، وهو من بيوع الغرر المحرمة شرعا.

وبهذا نخلص إلى أن الربا وبيوع الغرر والظلم أكبر خطر يحدق بالاقتصاد العالمي، وهي الأسباب الحقيقية لحدوث الأزمات الاقتصادية والمالية المتعاقبة والتي كان آخرها ما حصل في 2008، وسوف تتكرر الأزمات الاقتصادية ما لم يتخل العالم عن الربا؛ لأن الله جل وعلا قال «يمحق الله الربا ويربي الصدقات». والمحق هو إما زوال الربا كلية أو زوال بركته، نسأل الله العافية.