زيد الفضيل

في المعمار وجودنا

السبت - 19 يونيو 2021

Sat - 19 Jun 2021

أستشعر وأنا أتجول في أزقة مدينة جدة التاريخية حالة من النشوة التي أستعيد معها وبها قوتي على الصعيد الحضاري، وأقوي بها ملامح هويتي التي بات ينازعني عليها كثير من المغريات المصطنعة التي لا نعلم لها أصلا، ولا نعرف لها أساسا تنطلق منه، واكتفينا بأن أرضينا أنفسنا بقولنا بأنها (العولمة) التي يجب أن ننخرط فيها، ثم إذا صحونا وجدنا أنفسنا في فراغ مخيف نواجه عبء الانتماء الذي فقدناه دون وعي، ودمرناه في لحظة شرود صارخ، وتلك هي مصيبة المصائب والله.

ذلك على الصعيد الوطني فكيف إن تجول أحدنا في أرجاء وطننا العربي الزاخر بكثير من الموروث المعماري المهم، وبلا شك فالقاهرة إحدى تلك المدن الأصيلة بتراثها المتنوع، ابتداء من الموروث المعماري الفرعوني الذي تمثل في المعابد والأهرامات، مرورا بكثير من المعالم المعمارية الإسلامية، ووصولا إلى الطراز المعماري الأوروبي الكلاسيكي الذي تمثل في جماليات العهد الخديوي منذ عهد إسماعيل باشا وحتى سقوط الملكية بمصر.

في المعمار تكمن هويتنا بتفاصيلها الدقيقة، إذ ليست القضية حجرا وطينا، وإنما هي روح محلقة بطيفها الطاهر خلف كل ذلك البناء، وأنفاس ننتمي إليها روحا، وثقافة تواترت عبر مختلف السنين على عتبات وأروقة كل بيت ومسجد ومنشأة، وقبل ذلك وبعده هي وثيقة حية شاخصة بقوامها للعيان، تدل على عظمة من سبق، وتؤكد ما بلغه الأوائل من تفوق حضاري بغض النظر عن درجته وقوته، وهو ما يعزز انتماء أحدنا ويرفع من تقديره لنفسه وذاته، والسؤال الذي يحيرني هو:

كيف جاز لنا إهمال ذلك المعمار التاريخي حتى تهدم وسقط بعضه؟ ولماذا لم تعمل المؤسسات المعنية في مختلف أوطاننا وبمصر على وجه الخصوص على حفظ كثير من الموروث المعماري العريق الذي يعيش حالة مزرية من الإهمال والتدمير؟

أقول ذلك عن رؤية عين، إذ كم يحزنني حين أمر بجوار بيت عريق في مبناه، رائع في أدق تفاصيل زخارفه، لكنه قد تهالك جراء الإهمال، وصرت أراه كتلك القامة المهيبة في طلعتها، الأنيقة في هندامها، لكن الزمن عمل عمله فيها، وكأني بها كجسد مهيب يحاول أن يحافظ على ما بقي له من رمق حياء وحياة، ولا أعلم إلى متى سيمكنه الصبر والتجلد.

ذلك ما أراه في عديد من مباني جدة التاريخية التي تمثل المعقل الأخير للتراث المعماري الحجازي من بعد دخول جميع أحياء مكة المكرمة والمدينة المنورة التاريخية في توسعة الحرمين الشريفين، وزوال معالم الطائف القديمة؛ كذلك فهو المشاهد في كثير من المباني التاريخية بقاهرة المعز، التي لا أظن أنها ستعيش عقودا قليلة إذا استمر التعامل معها بذات النسق والاهتمام من قبل مؤسسات التراث العمراني والجهات المعنية.

في هذا السياق أشير إلى أني تشرفت بحضور ندوة للروائية المصرية ريم بسيوني التي أبدعت بنسجها لرواية أولاد الناس وسبيل الغارق وغيرهما، وكنت مسرورا بعقد الندوة في بيت المعمار المصري بحي الخليفة الواقع بدرب اللبانة، وسررت أكثر بتجوالي في مساحة مكانية ممتدة بين مسجدي السيدة نفيسة بنت الحسن ومسجد السيدة زينب الكبرى، التي تتميز باكتنازها لكثير من المعالم المعمارية الفارهة، والشواهد التاريخية العريقة، الممتدة زمنيا وثقافيا وتنوعا حضاريا من إسلامي مبكر إلى فاطمي فمملوكي وعثماني، ولعمري فذلك نادر في بقعة واحدة، لكنه حقيقة ماثلة في مصر وليس في غيرها.

على أني وبقدر دهشتي التي لا تتوقف كلما زرت هذه الأماكن وغيرها أشعر بالحزن في كل مرة، إذ أجد البيئة المعاشة تزداد سوءا، ولو كان الأمر بيدي لجعلت هذه المساحة المكانية حرما للسائحين والباحثين والراغبين في تعزيز ما فقدوه من وجودهم المعنوي والحضاري في ظل توحش الحضارة الرأسمالية وتدميرها لكثير من المفاهيم والقيم، بل وتحويل أبنائنا إلى روبوتات آلية تمشي وتأكل دون روح وهوية.

في المعمار يكمن وجودنا، وخلف تلك الجُدُر تشكلت هويتنا، فهل من المنطق أن نتخلى عن ذاتنا في لحظة شرود عابرة، ومع تسنم من لا يعرف ويدرك قيمة ما بين يديه، على أني أرجو أن تهتم الرؤية القادمة سواء بوطننا المملكة العربية السعودية أو بمصر بإعادة الحياة لتلك الشخوص المعمارية، وكم آمل أن يختفي الزمان الذي نردد فيه قول امرئ القيس:

حَيِّ الدِّيارَ التِي أبلَى معالِمَها

عواصفُ الصَّيْفِ بِالْخَرْجاءِ والْحقَبِ.

zash113@