وليد الزامل

مستقبل المدن وجلسة استحضار لروح الماضي؟!

السبت - 19 يونيو 2021

Sat - 19 Jun 2021

ذات يوم حاولت أن أستحضر روح الماضي فخاطبته قائلا: إن الأصل في المدن هو التطور واستقراء متطلبات المستقبل؛ وهذا يشجع المدن على تبادل الخبرات، وتطوير المهارات الذاتية والمعارف، والمنافسة بين أفراد المجتمع لمواكبة التحولات المستقبلية. إن التخطيط القطاعي والمكاني بمختلف مستوياته (الوطني والإقليمي، والعمراني)، هو استقراء لمتطلبات المستقبل.

لذلك، فإن إعادة هيكلة الاقتصاد سوف تستلزم خلق فرص وظيفية ذات متطلبات جديدة قد لا تتواكب مع الأوضاع القائمة مهما استفاد منها البعض؛ وقد يصاحب ذلك استقطاب اجتماعي خارج النطاق المحلي. عندئذ وفي ظل قيادة اقتصادية متمكنة، تزداد المنافسة للجيل الحالي وتكون أمام المجموعات الاجتماعية التقليدية في ظل هذه التحولات الاقتصادية 3 خيارات وهي (الاستجابة لمتطلبات التحولات الاقتصادية الجديدة، أو البحث عن الوظائف التقليدية المتبقية، أو الانسحاب كليا من سباق هذه المنافسة).

حضر الزمن الماضي حديثي مرتديا حلة زاهية وواصفا نفسه بالزمن الجميل، فقال لي: مهلا كنا نعيش بلا مشاكل! حياة بلا أمراض أو تدهور بيئي أو كوارث طبيعية. لقد جاءت المدنية وعصر الحداثة اللذان تتحدث عنهما ليزفا لنا أخبار البؤس والشقاء. ها هم الأطباء وقد أقبلوا ليس لهم حديث سوى مخاطر العدوى والأمراض والأوبئة؛ وجاء معهم خبراء التغذية لينصحونا بالمشي وممارسة التمارين الرياضية وعدم تناول بعض الأطعمة والسكريات.

وأردف قائلا: لقد منعونا حتى من تناول اللحوم والسمن والشحوم التي كنا نتناولها سابقا بلا حسيب أو رقيب. وأرى اليوم خبراء البيئة ومن هم على شاكلتهم منهمكين بقراءة أخبار الاحتباس الحراري، والتلوث البيئي، وتدمير الموائل الطبيعية، واستنزاف الموارد وحقوق الأجيال القادمة.

واسترسل الزمن الماضي في الحديث، وبدت على ملامحه التوجس والخيفة من زمن المستقبل قائلا: ها هم الاقتصاديون يزفون لنا أخبار الانكماش الاقتصادي، وغلاء الأسعار، وصراع الوظائف.

إن مدننا في الماضي لم تكن تعاني من الازدحام وأزمات الإسكان وانتشار العشوائيات. لقد شيدنا بيوتنا بسواعدنا من مواد بناء محلية صمدت لقرون ضد الرياح والأمطار وأشعة الشمس الحارقة.

تخرجنا من جامعة الحياة، عشنا وتكيفنا مع البيئة والمناخ القاسي، وتماشت مدننا مع طبيعة الموقع وخصائصه؛ لقد كانت بالفعل مدنا مستدامة. أجسادنا في الماضي كانت قوية، وصحتنا لم تشبها شائبة حتى جاء هؤلاء الخبراء لينسجوا لنا مدنا وبيوتا على الورق وهي أقوى بقليل من الورق!

فقلت له: إن ما سردته من حديث ليس إلا عبارات حالمة تخالج مشاعر البعض حتى وإن لم يبوحوا بها، فالتغيير سنة الحياة فإما أن نتقبله أو يتركنا الزمن ويرحل. الحياة في الماضي لم تكن وردية -كما تقول- وعدم معرفتك في الأشياء لا يلغي وجودها، فالأمراض والأوبئة كانت ولا تزال موجودة، والعلم والتطور هو الوسيلة لمكافحتها. السعادة يا صاحبي ما هي إلا نسمة هواء عليل أو قطرات مطر ندية سرعان ما تذوب في بحر الشقاء المالح.

لم يقتنع الزمن الماضي بما ذكرته فرد قائلا: حضرات السادة الخبراء تتشدقون بعبارات رنانة ومصطلحات منمقة تنقشون بها حديثكم البراق وفلسفتكم منذ عشرات السنين دون أن نفهم أو نرى شيئا من أعمالكم على أرض الواقع! باختصار لقد جاء الأطباء بالأمراض، وخبراء البيئة بالكوارث، وخبراء التغذية بالسمنة، وخبراء التخطيط بمشاكل المدن!

كانت هذه حكاية حواري مع الزمن الماضي ولم أشأ أن أقاطعه، بل ناولته كوبا من الماء البارد لعله يهدأ وينصرف، وتوقفت عن الجدال معه فلا جدوى من ذلك لأترك الحكم لكم.

@waleed_zm