ياسر عمر سندي

ذات اليمين وذات الشمال

الأربعاء - 24 فبراير 2021

Wed - 24 Feb 2021

من الحكم الربانية في منظومتنا الكونية أن خلق بها آلية للتوازن بين الأضداد، أي الضد في مقابل ضده في كل شيء، وأصبحت بذلك قوانين متعددة تسري على جميع المخلوقات، فقد تكون طبيعة تلك القوانين متداخلة ومترابطة، أي إنها تشترك مع عدة مكونات بيئية، وقد تكون مصنفة وحصرية على نوع واحد ومكون محدد، فمثلا هنالك الأسود والأبيض، والماء والنار، والخير والشر، والمرار والسكر، والصحة والسقم، والقوة والضعف، والخوف والاطمئنان، والإيمان والكفر، واليمين والشمال.

مختلف القوانين توفر الانضباطية العامة، خاصة لحياة البشر، وهو بلا شك احتياج إلزامي لديمومة الحياة جسديا ونفسيا وفكريا للإنسان، وهي بذلك تساعده على الاستقرار المرحلي في كل حال، وكما قيل في المثل دوام الحال من المحال، وهو أساس التكوين المتوازن، فإذا شاهدنا عرضا للسيرك وركزنا على من يمشي على الحبل نلاحظ أنه يستخدم كلتا ذراعيه اليمنى واليسرى ويستعين بعصا يقبضها ليتمايل في الاتجاهين، ويتوازن معها، فالمغزى هو معرفة الكيفية في فكرة التوازن لضبط السير على الخطى المرسومة بإيقاع متكرر في هذه الحياة المتقلبة على الدوام.

عندما أورد المولى عز وجل في محكم تنزيله في الآية 18 بسورة الكهف حال الفتية الذين آمنوا بربهم وهم في سباتهم الطويل قال تعالى «ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال» أراد أن يرشدنا إلى ذلك القانون التداخلي بين عدة مكونات لمجموعة من المخلوقات والتي برهن بها في هذا الموقف التصويري المعجز بآلية هذا التوازن بين الميلتين لليمنى تارة واليسرى تارة أخرى، فإذا نظرنا وتأملنا مطلع الآية التي قال تعالى فيها «وتحسبهم أيقاظا وهم رقود» نرى ذلك التضاد المتوازن جسديا واضحا وجليا للفتية، وإذا رجعنا إلى ما قبلها في الآية رقم 17 قال تعالى «وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال»، هنالك تناقض كوني فلكي زمني بين الشروق والغروب في تقلب حالهم يمنة ويسرة.

المكونات الأربعة الموجودة في هذا الموقف العظيم، الذي ذكره الخالق البارئ تبدأ أولا بمكون الجماد الملموس وغير العاقل الدائم على طبيعته والمتغير في حاله، والمتمثل في فجوة هذا الكهف، والثاني مكون البشر الملموس والعاقل في خلقته والمتغير في أحواله جسديا ونفسيا والمتكون من الفتية، أما المكون الثالث نستنبطه من الآية الكريمة وهو غير العاقل الملموس لكنه حي تجري فيه الروح من عالم الحيوانات يقول تعالى «وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد»، لتدل على هيئته بالاستعداد وتفاعله مع البشر والحجر والوقت، وهي حراستهم بالمكوث داخل الكهف لتأتي بعد ذلك الآية التي تعزز المكون الرابع المحسوس غير العاقل والمتغير في أصله وخاصيته وأحواله وهو الزمن في الآية الكريمة رقم 18 قال تعالى «كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم»، بطوله في تعداد طبيعته وقصره في تعداد استشعارهم به، وهذه التوليفة اندمجت لإخراج معجزة من المعجزات التي تحدى بها الله وأثبتها من خلال التوازن الرباعي في السورة.

جميع مراحلنا العمرية منذ ولادتنا إلى وفاتنا هي عملية توازنية بين عدة مكونات تفاعلية، وبمجرد أن يرى المولود الحياة تلازمه صرخة وكأنما يعلن ضمنيا بداية دخوله دائرة التوازن من مراحل الحضانة والرعاية مرورا بالتربية ووصولا إلى مرحلة البلوغ والتكليف وإيجاد التوازن الإيماني بالعبادات، ثم السعي للرزق لإحداث التوازن بين بذل العمل وطرد الكسل، ثم البحث عن شريك الحياة الذي يساعده بإحداث التوازن الجسدي والمشاعري، لتبدأ دورة التوازن بين الزوجين الذكر والأنثى في أخذ الحقوق وإعطاء الواجبات المادية والمعنوية، إلى أن يقدر الله لهما ثمرة هذا التوازن في الشراكة الرابحة بالإنجاب، لتبدأ رحلة التوازن العاطفي بنعمة الذرية والبذل في النواحي التربوية ليشعر الآباء برحلة توازن أخرى تتقلب ذات اليمين وذات الشمال، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لنتحول أخيرا لمرحلة القرار والاستقرار.

@Yos123Omar