وحيد الغامدي

من أجل تطبيقات ناضجة للشريعة

الجمعة - 15 يوليو 2016

Fri - 15 Jul 2016

حين وقعت المجاعة عام الرمادة قام الخليفة عمر بن الخطاب بما يشبه (التعليق الدستوري) وأوقف الحكم بحد من الحدود بسبب واقع سياسي واقتصادي جديد آنذاك، وهو ما اصطلح عليه الفقهاء لاحقا بــ(فقه النوازل). هنا نحن أمام متغير ظرفي عابر، وبرغم ذلك حصل فيه ما يشبه الضرورة الواقعية التي لم يحصل معها إمكانية لتطبيق حد شرعي معروف، وبالتالي كان ذلك التعليق أشبه بالمخرج الذي يمكنه المحافظة على الكيان السياسي والروحاني أيضا للدولة الوليدة آنذاك.

هنا سننتقل إلى السؤال الأهم: وهل هذا يعني ألا نطبق الحدود أو (ما أنزل الله) بسبب المتغيرات الحياتية المتوالدة؟ ولكن للإجابة عن هذا السؤال لنفترض طرح السؤال التالي: هل جاء الإسلام من أجل غايات إنسانية وعدلية واضحة ومحددة؟ أم جاء من أجل رغبة جامحة في تطبيق الحدود بتلك الطريقة البوليسية التي تمارسها الجماعات الجهادية اليوم في المناطق التي تسيطر عليها؟

هذا السؤال يدعونا إلى التفكير في مهمة أصعب اليوم من مهمة الرد على تلك الجماعات، إنها مهمة التصحيح الديني وإعادة تقييم التصورات المقاصدية والفلسفية للدين الإسلامي وغاياته الكبرى كما جاءت في القرآن الكريم.

إن تلك الغايات المقصودة قد توارت اليوم لتصبح نقاطا ثانوية أمام فرعيات مذهبية وفقهية بنيت وفق صورة جدلية كان رغبتها الرد المتبادل بين المذاهب.

فنجد مثلا أنه في السياق الحنبلي كان المسح على الخفين يتم إدراجه في كتب العقائد؛ وذلك للرد على بعض الشيعة الذين ينكرون المسح بالكلية. (انظر: شرح السنة للبربهاري، ط1 ص79). هنا قد حصل ما يشبه الفوضوية في ترتيب الأولويات في الذهنية الشرعية التي كونت لاحقا المحصلة الفكرية للعقل المبرمج للكثير من الطرح الإسلامي على الساحة.

إذن – وبإزاء هذا التراث الذي بين أيدينا سواء في شقه العقائدي أو الفقهي – سنجد أننا أمام الكثير من الوضع (البشري) الذي لا يلزمنا في هذا العصر لكي نظل أوفياء لتطبيقاته وفق تصورات أقوام رحلوا منذ مئات السنين، وبالتالي فإن إعادة القراءة المقاصدية للإسلام اليوم إنما هي محاولة لإنقاذ الإسلام نفسه من بعض المتحمسين لتفعيل تطبيقاته بعشوائية المفاهيم الدارجة للمعنى الذي تم تفريغه من غاياته الفلسفية.

حينما يكون هناك عودة لغايات الإسلام وفلسفته التي من أجلها أرسلت الرسالة، وقراءتها وفق ذهنية معاصرة تعي الواقع وتتصالح مع ذاتها ومع الآخر المختلف حينها ستذوب الكثير من العوائق الحضارية والإنسانية لتحقيق التوازنات المنطقية بين النص والواقع، ولهذا فإن شرط تلك القراءة المقاصدية هي القراءة التصحيحية لمحددات تراثية قفزت إلى مرتبة الثوابت ضمن المدونة العقائدية والفقهية. أي بمعنى أن تكون تلك القراءة المقاصدية خالية من الانتماء المذهبي والأيديولوجي الذي لن يضيف شيئا حقيقيا لأي توجه نحو مواءمة صحيحة وحقيقية بين الدين وبين الواقع اليوم.

إن المقصود بإعادة القراءة المقاصدية للدين ليس ترفا فكريا يمكن أن نمارسه من أجل تسويق الإسلام للعالم، بل هو ضرورة وجودية للإسلام نفسه في أعين أبنائه أولا، فالمادة الفكرية التي هي عليها بعض المفاهيم اليوم لن تصب إلا في مسارين: إما المسار الذي يجذب (المتحمسين) الذين يرون عدم اكتمال تطبيق تلك المفاهيم كما ينبغي، وبالتالي ينجذبون لجماعات العنف والإرهاب.

وإما المسار الذي يجذب (المتمردين) الذين يرون خشونة تلك المفاهيم في مقارناتهم المستمرة بين واقعهم وبين العالم اليوم، معتقدين أن كثيرا من تلك المفاهيم هي دين حقيقي، وبالتالي ينجذبون لتيارات التمرد الصارخ كالإلحاد واللادينية.

وفي تصوري أن كلا المسارين هما نتيجة طبيعية لأي عملية تكلس فكري عند محددات عصور مضت دون القدرة على إحداث ثورة تجديدية حقيقية تعيد للدين نبضه في القلوب، وتمهد لانطلاقة حضارية وثابة.



[email protected]