طارق فريد زيدان

منصات للتواصل أم قنابل صوتية؟

الأربعاء - 23 ديسمبر 2020

Wed - 23 Dec 2020

اليوم لا يحظى إنجاز أو عمل بالمتابعة والاهتمام إلا بعد الشهرة، في ظاهرة متنامية اتخذت من تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة للبروز لا الإنتاج.

من خلال التشابك مع القضايا وليس من خلال التأثير فيها، ظفر البعض بهذا المبدأ حتى أصبح مسار النجاح كالآتي: إعلان، شهرة ثم إنجاز.

سابقا كان الطامحون يسعون في مسيرتهم لإنجاز أو اختراع أو بطولة ما تؤهل الفرد للظهور في وسائل الإعلام. أما اليوم، فقد بات الأمر يدار بالعكس.

الساعي إلى الإنجاز عليه أن يظهر على تويتر أو فيس بوك أولا لتحقيق الشهرة التي تضعه على سكة الإنجاز. بمعنى آخر، تحول الإنجاز من سبب إلى نتيجة.

أصبحت الشهرة بضاعة للبيع في سوق لا تحكمه قواعد الاقتصاد من عرض (معلومات وأخبار) وطلب (معرفة)، بل من خلال قسمة ضيزى. بيع للشهرة في سوق افتراضي عالمي. والأخطر أن البضاعة لا تخضع للمعايير العلمية (ولا حتى الأخلاقية) الدقيقة. هناك فرق شاسع بين المعلومة والمعرفة. المعلومات أجناس. وأكثر الناس لا جلد لديها على أن تُدقق أو تنبش أو تقارن.

في هذا السوق المضلل والمنتشر تغيب أمور كثيرة. أهمها القيمة. أين قيمة الإنجاز الذي كان يُبنى على جبل من العلم والخبرة والتواصل؟ وكيف يمكن صرف ضريبة القيمة المضافة لسنوات الدراسة؟ ثم كيف لنا توزيع الألقاب (للفرد الخيار في التعريف عن الذات على منصات التواصل) مثل الباحث والمؤلف والفنان وغيرها من دون الاختصاص؟

هذه الظاهرة قلبت الموازين بشكل جذري وعميق. يمكن تتبع آثارها حتى حدود القوانين الصارمة التي وضعتها دول العالم بغرض الوقاية من الغش والتزوير. أكبر دليل على ذلك الاستدعاءات المتكررة من قبل مؤسسات الحكومة الأمريكية لمؤسس تطبيق فيس بوك الأمريكي مارك زوكربرغ.

لا يقف الخلل عند الباحثين عن الشهرة، بل يتصل بالمتلقي المفتتن بالنجومية. حين متابعة وسائل التواصل الاجتماعي سيتجلى أمامنا أثر الاختلاف في المفاهيم، حتى أصبحت الوسيلة تبرر الغاية معرضة الميزان الأخلاقي للخطر. مثلا، في عالمنا العربي التبس على المتلقي بين القضايا الاستراتيجية والصفقات الاقتصادية، بين الإعلام والإعلان، حيث يطغى الانفعال على الخبر بدلا من التفاعل معه.

يبدأ الخلل الجذري بالظهور أكثر فأكثر مع ملامسة قضايا الشأن العام، هنا لا حوار ولا منطق، بل استقطاب وتشاتم وتهديدات وغيرها من القنابل الصوتية، قنابل تنفجر وسط كل بيت وفي حضن كل عائلة. ومن يتصفح وسائل التواصل الاجتماعي سيجد خناقة كبيرة بين فرقاء لا يعرف بعضهم بعضا، ولن يلتقي أحد منهم بأحد، مجموعة مجهولة تتحصن خلف دشم تويتر وفيس بوك، تخرج مجرد أصوات لا أفكار واضحة تبحث عن البطولة وسط ضجيج الرسائل، عندها ينقسم الجمهور إلى فريقين، فريق واهم يعتقد أن البطولة تكمن في المعارضة، وفريق آخر يتقن التملق.

يا جماعة تذكروا هاتين الكلمتين: للدولة كبرياء. هناك حقائق لا تقبل الدولة في تجزئتها ومنها الأمن والانتظام العام، مما يجبر الرقيب على التدخل منعا لتجاوز المحظورات (السلم الأهلي مثلا). وما نشاهد من لغط على وسائل التواصل الاجتماعي اليوم لا يقتصر على المعارك الكلامية، هي تعبئة نفسية وتجييش للغرائز في حرب أهلية افتراضية تعيد التذكير بقصة الرئيس الفلسطيني السابق الراحل ياسر عرفات إبان الحرب الأهلية في لبنان.

يحكى أن اجتماعا رتبه الوزير السابق كريم بقرادوني بين ياسر عرفات وخصمه اللبناني الشيخ بيار الجميل الأب رئيس حزب الكتائب اللبنانية. يومها كان الرجلان يقفان على ضفاف متقابلة لأنهار من الدم تهدر في شوارع بيروت، أنهار تسكب في شوارع بيروت المنقسمة بين «الشرقية المسيحية» و»الغربية المسلمة»، حسب أدبيات تلك الحرب البغيضة.

في طريقه إلى الاجتماع في معقل حزب الكتائب في «المنطقة الشرقية»، سلك موكب عرفات شوارع ضيقة، شاهد بأم عينه لافتات وشعارات مناهضة عديدة معلقة على كل حائط (فيس بوك) وخارجة من شرفة (تويتر) كل بيت، حين الوصول إلى مكان اللقاء، توجه عرفات مباشرة إلى الجميل قائلا «انتبه شيخ بيار، التعبئة النفسية أخطر من التعبئة العسكرية».

لننتبه إلى أن التعبئة النفسية في وسائل التواصل الاجتماعي خطيرة، ولنتذكر أن هناك فرقا بين التعبير والتجريح، وحينما نتعلم استخدام المفردات الصحيحة ينخفض مستوى التشنج والتعصب والتحريض والتوتر، هذه مسؤولية تقع على المجتمع قبل الدولة، علينا مجتمعين تحري الدقة قبل تمرير هذه القنابل الصوتية.

منصات التواصل فيها كل شيء إلا التواصل، من يقيم جسرا أو يفتح طريقا هو كمن يفتح حسابا في هذه المنصات، الهدف هو التعرف إلى الآخر، التحاور معه، احترام عقله، اكتشاف فكرة، إضافة فكرة.. ما عدا ذلك، تتحول المنصات الافتراضية إلى حبال غسيل ننشر عليها كل ثيابنا الداكنة السواد التي تحجب أنظارنا وتحجب أنظار الآخرين عنا.