زيد الفضيل

اللغة وصراع التفوق الحضاري

السبت - 19 ديسمبر 2020

Sat - 19 Dec 2020

يحتفي العالم في الـ18 من شهر ديسمبر باليوم العالمي للغة العربية، التي اعتمدت عام 1973 لغة رسمية في الجمعية العامة للأمم المتحدة وهيئاتها.

وتتمتع اللغة العربية بوسائل الثراء المُعْجمي والذخيرة اللغوية الواسعة، جراء تميزها بقدرتها على تجديد ألفاظها ومعانيها، سواء بالاشتقاق أو التعريب أو النحت، ومن خلال خاصية الترادف التي تتميز بها عن غيرها من اللغات القديمة والحديثة.

ولعل أبرز ما تتميز به لغتنا العربية أنها ثابتة خالدة طوال قرون تاريخية سالفة، فلم تتغير أحرفها وكلماتها، ولم تتبدل معانيها، ولذلك يمكن لأبنائها اليوم أن يقرؤوا ويفهموا ويتذوقوا تراث من سلف دون عناء، وهو ما لا يتحقق في اللغات الأخرى كالفرنسية والإنجليزية وغيرهما، لتغير ألفاظها واختلاف معانيها عبر القرون.

على أن هذا التميز وغيره مما امتلأت به المدونات والكتب لم يُحفز عديدا من التنفيذيين من أبناء اللغة العربية لبذل العناية الجادة بلغتهم الأم، بهدف جعلها أساسا في حياة مجتمعهم علميا وعمليا، وركيزة في معاملاتهم الاقتصادية، إذ نجد كثيرا منهم، وإن كانوا يصدحون بأهميتها ووجوب العناية بها قولا، لا يتخذون أي إجراء حقيقي لجعل لغتهم الأم وعاء معرفيا حضاريا، وحتما فإن موضوع الترجمة المؤدي إلى نقل وصناعة محتوى معرفي لهو من أول الموضوعات الجادة التي لم يهتم بها أولئك التنفيذيون خلال العقود السالفة حتى اليوم.

على أن الأدهى والأمر، أنه قد اختُزل مفهوم صناعة المحتوى في موضوع تسويقي ضئيل بأهدافه وأدواته البسيطة، لتصبح القضية مرهونة بتقديم فكرة تجارية هنا وهناك، وبكيفية تسويقها بين الناس. ولا خلاف في أن ذلك محتوى يجب الاهتمام به، لكنه لم يكن المقصود حال انبثاق المصطلح، من حيث وصفه مصطلحا معرفيا يهتم بزيادة المحتوى العربي العلمي والثقافي في المكتبة العالمية، سواء من بمواكبة الترجمة لما ينشر عالميا إلى اللغة العربية، وهو المقصود بنقل المعرفة، أو بالتوسع في نشر الأبحاث العربية على الشبكة العنكبوتية بوجه عام، وكل ذلك سيساعد في تأصيل المعرفة وتقديمها بوعاء حضاري عربي، أسوة بغيرنا من الشعوب شرقا وغربا، وليست اليابان والصين بأفضل منا على الصعيدين اللغوي والحضاري، ولا سيما إذا عرفنا أن تكوين لغتهما قائم على التشكيلات الرمزية وليس الحروف الأبجدية، ومع ذلك فقد صنعتا نهضتهما وتفوقهما الحضاري الملموس بهويتهما المعرفية، ودون أن تستعيضا عن تشكيلات حروفهما الرمزية بنسقها العمودي حال الكتابة، بالحروف اللاتينية واللغة الإنجليزية مثلا.

أشير في هذا الإطار إلى قانون توبون عام 1994، المنسوب إلى وزير الثقافة الفرنسي جاك توبون، الهادف إلى حماية اللغة الفرنسية وتراثها عبر عدد من الإجراءات، كالالتزام باستخدام الفرنسية لغة رسمية للجمهورية، واعتماد استعمال المصطلحات الفرنسية دون غيرها من اللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية، بل وأراد الوزير توبون إزالة بعض الكلمات الإنجليزية المترسخة في القاموس اللغوي الفرنسي منذ قرون، كما ألزم القانون استخدام اللغة الفرنسية في جميع الإعلانات، وأماكن العمل، وحال توقيع العقود التجارية، وفي جميع المدارس التي تمولها الحكومة، ومختلف البرامج السمعية البصرية.

كذلك اهتم اليهود بصناعة محتوى عبري، عبر تعزيز لغتهم القديمة وإحيائها ولو بشكل جديد، حفاظا على هويتهم وقوميتهم ووجودهم، ولو لم يكن الأمر ليستحق كل ذلك العناء لأمكنهم استخدام أي لغة حديثة متداولة وعاء معرفيا حضاريا لهم، لكن الأمر على غير ذلك، ولهذا ومع بدء الاستيطان اليهودي لفلسطين، عمل اللغويون العبريون على إخراج اللغة العبرية من الكتب والصحف القديمة إلى الشارع، ومارسوا كثيرا من التعديل والتطوير من أجل تسهيلها وتليينها على الألسن، حتى نجحوا في إخراج ما يعرف اليوم بـ «اللغة العبرية الحديثة»، لتكون اللغة الرسمية الأولى لدولة إسرائيل، وتستخدم في شتى مجالات الحياة، على الرغم من اختلافها عن لغتهم العبرية التوراتية القديمة، ومع ذلك استمر إصرارهم على نشرها بتقديم كثير من الامتيازات لمستخدميها، مثل: الإعفاءات الجمركية والإعفاء المؤقت من الضرائب المباشرة ومنح القروض الميسرة للإسكان.

وبهدف تأصيلها بين الناس فقد صنعوا لها محتوى أدبيا، فكتبوا بها القصص والروايات، وأسسوا لها جمعيات ثقافية، وعمدوا إلى تكثيف أعمال الترجمة إليها، ثم أصدرت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية عام 1995 وثيقة تنص على أن اللغة الأم هي العبرية، وهي اللغة الأولى في التعليم العام والعالي، إيمانا منهم بأن اللغة التي لا تُستخدم تموت. فهل يسعنا ما يسعهم؟ سؤال أتوجه به لكل مسؤول عربي.

zash113@