الهويات القاتلة.. ليس بالضرورة!
السبت - 19 ديسمبر 2020
Sat - 19 Dec 2020
في عام 1998 نشر الروائي اللبناني أمين معلوف كتابه الشهير «الهويات القاتلة» باللغة الفرنسية ليترجم بعدها بلغات عدة.
تناول في أكثر من مئتين صفحة مسألة الهويات الفردية والجماعية والمركبة. وكيف تتحول هذه الهويات من أسماء/عناوين إلى سلاح/أداة.
فتصبح الهوية الدينية أو الثقافية أو الاجتماعية سلاحا مدمرا للمجتمع وأداة رفض للآخر.
اشتهر معلوف روائيا وكاتبا من مدينة بيروت التي عرف عنها أنها عاصمة للتنوع والتعددية الثقافية، مما كان لها الأثر الكبير في صياغة هويته، فقد توفي والده في خضم الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينات القرن الماضي، في حروب الآخرين على أرضه التي جيشت الأسماء والعناوين كلها، يومها انتشرت ظاهرة القتل على الهوية ومما لا شك فيه أن هذه الظاهرة دفعت معلوف للتفكر في الهويات القاتلة لبلده لبنان.
غير أن ظاهرة التعددية، وهي سمة ذات قيمة مضافة لبلاد الأرز، لها وقع غير قاتل على المجتمع، لها أثر ناعم استمر إلى اليوم بالرغم من أهوال القتل والدمار المستمر واللذين يلحقان بهذا البلد الصغير.
فقد دفعت هذه القوة الناعمة «للهويات القاتلة» الشاعر جوزيف حرب إلى كتابة أغنية السيدة فيروز «أسامينا شو تعبوا أهالينا تلاقوها/ وشو افتكروا فينا»، ولأن الأسماء ليست كلاما على بطاقة، أو حتى هوية، هي على حد وصف الشاعر في أعيننا مكمل «الأسامي كلام/ شو خص الكلام/عينينا هني أسامينا».
لعل معلوف قد تأثر بالأغنية لما لها من لحن ساحر من صنع المبدع فيلمون وهبي.
ومن سحر فيلمون وهبي إلى سحر العلاقة بين الاسم والهوية، هذه العلاقة التي لها سحر في بطن التراث يمكن سبر أغوار قوتها الناعمة من خلال الشعر، أو المادة اللغوية التي فتقت أن تخرج بأجمل التعبيرات عن الهويات الإنسانية، فهذا شاعر حي منفوحة في مدينة الرياض أبدع في معلقته حين قال «وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني/ شاو مشل شلول شلشل شول». هذا البيت للشاعر الأعشى الذي سكن أرض اليمامة قبل ألف وأربعمئة عام. وهو ميمون بن قيس الوائلي الذي قرح معلقته اللامية فأصبحت شوارع منفوحة تسجل باسمه، ولأهل منفوحة نصيب من مجد الأسماء والهوية معا.
ثم هناك أجمل القصائد المغناة التي تتصل بالأسماء وعلاقتها بالهوية المركبة، الدينية والجغرافية، حيث تكمن قوته في بيت الشعر التالي «أضاعوني وأي فتي أضاعوا/ ليوم كريهة وسداد ثغر»، لهذا البيت سيرة تبدأ من الولادة من واد في محافظة الطائف، مرورا بالهوية الأموية لقائلها، وصولا إلى قصة الإمام الأعظم أبوحنيفة مع جاره السكير.
القصيدة هي للشاعر عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي، الملقب بالعرجي نسبة لوادي العرج في محافظة الطائف اليوم. ويحكى أن عبد الله بن عمرو كان له طموح في نيل ولاية مكة في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وحين أسند الخليفة هشام الولاية لخاله محمد بن هشام المخزومي وجد عبد الله بن عمرو في الشعر وسيلته للتعبير عن استيائه، فصب جام بلاغته في قصيدة يتغزل فيها بأم الوالي الذي فاز بالمنصب بدلا عنه، وحين علم الوالي الجديد بالأمر قبض على الشاعر وزجه في السجن لأكثر من تسع سنوات، عندها ومن خلف القضبان صنع العرجي بيت الشعر الذي حمل قوة ناعمة خرجت بعد حين.
فقد تحول هذا البيت الشعري إلى هوية فقهية/دينية على مسمع من الإمام الأعظم أبوحنيفة. كان للإمام في الكوفة جار يتغنى بهذا البيت بعد أن يسكر، وقد أعجب الإمام بصوت جاره مستمعا له كل ليلة، إلا أنه في إحدى الليالي افتقد صوت جاره، ليكتشف أن العسس (الشرطة) قد حبسوه. سعى الإمام للإفراج عنه، وحين خرج جاره سأله أبوحنيفة «هل أضعناك؟»، أجاب الجار شاكرا مساعدته في الخروج من حبسه، فدعاه الإمام إلى مواصلة الغناء!
وإذا ما واصلنا البحث في الشعر المشكل للهوية، فأين نحن من هذا البيت الذي يصف هوية العرب من خلال لباسها، ألم يقل الشاعر سحيم بن وثيم اليربوعي التميمي «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا/ متى أضع العمامة تعرفوني».
لقد استشهد الحجاج بن يوسف الثقفي بهذا البيت عند خطبته الشهيرة حين ولاه الكوفة عبد الملك بن مروان، ذلك لما للبيت من قوة ناعمة تشعها هوية لابس العمامة، هي العمامة العربية ذاتها التي أضحت هوية عابرة للقارات اليوم.
الكلام في العلاقة بين الهوية وقوتها الصلبة إشكالية نقدية مزمنة، تطرح الأسئلة أكثر من تقديم الأجوبة لها، وكأنها صراع بين الواقع والخيال، أو أنها أقرب إلى كباش بين لغة الحياة وفلسفة الكون. لماذا تظل الهوية مرتبطة بأقصى درجات الذات محافظة على حيوية طاغية مع الآخر؟ وكيف لأحرف أن تصنع القتل علما أن الهوية هي تعبير عن تفاعل الإنسان مع الآخر؟ وبالمقابل لماذا تتجه بعض الثقافات إلى التعبير عن ذاتها بأسلوب فني إيقاعي؟
لم يكن معلوف الأول الذي تناول مسألة الهوية وعلاقتها مع الآخر، فقد تناول النقاد والباحثون والفلاسفة هذه العلاقة كل من زاويته، والمثير أن أجوبتهم جاءت مختلفة، أو لنقل كل على حسب منسوبه الهوياتي/الثقافي.
إلى اليوم تصنع الهويات مذاهب ومدارس فكرية متنوعة، والعقل العربي في هذا الشأن له نصيب كبير في صياغة الإشكالية، وتغذية روح المشاغبة بشقيها الناعم والصلب، لنصل إلى أن الهوية تكون قوة ناعمة عند احتضان التعددية، وصلبة عند تحديها.
تناول في أكثر من مئتين صفحة مسألة الهويات الفردية والجماعية والمركبة. وكيف تتحول هذه الهويات من أسماء/عناوين إلى سلاح/أداة.
فتصبح الهوية الدينية أو الثقافية أو الاجتماعية سلاحا مدمرا للمجتمع وأداة رفض للآخر.
اشتهر معلوف روائيا وكاتبا من مدينة بيروت التي عرف عنها أنها عاصمة للتنوع والتعددية الثقافية، مما كان لها الأثر الكبير في صياغة هويته، فقد توفي والده في خضم الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينات القرن الماضي، في حروب الآخرين على أرضه التي جيشت الأسماء والعناوين كلها، يومها انتشرت ظاهرة القتل على الهوية ومما لا شك فيه أن هذه الظاهرة دفعت معلوف للتفكر في الهويات القاتلة لبلده لبنان.
غير أن ظاهرة التعددية، وهي سمة ذات قيمة مضافة لبلاد الأرز، لها وقع غير قاتل على المجتمع، لها أثر ناعم استمر إلى اليوم بالرغم من أهوال القتل والدمار المستمر واللذين يلحقان بهذا البلد الصغير.
فقد دفعت هذه القوة الناعمة «للهويات القاتلة» الشاعر جوزيف حرب إلى كتابة أغنية السيدة فيروز «أسامينا شو تعبوا أهالينا تلاقوها/ وشو افتكروا فينا»، ولأن الأسماء ليست كلاما على بطاقة، أو حتى هوية، هي على حد وصف الشاعر في أعيننا مكمل «الأسامي كلام/ شو خص الكلام/عينينا هني أسامينا».
لعل معلوف قد تأثر بالأغنية لما لها من لحن ساحر من صنع المبدع فيلمون وهبي.
ومن سحر فيلمون وهبي إلى سحر العلاقة بين الاسم والهوية، هذه العلاقة التي لها سحر في بطن التراث يمكن سبر أغوار قوتها الناعمة من خلال الشعر، أو المادة اللغوية التي فتقت أن تخرج بأجمل التعبيرات عن الهويات الإنسانية، فهذا شاعر حي منفوحة في مدينة الرياض أبدع في معلقته حين قال «وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني/ شاو مشل شلول شلشل شول». هذا البيت للشاعر الأعشى الذي سكن أرض اليمامة قبل ألف وأربعمئة عام. وهو ميمون بن قيس الوائلي الذي قرح معلقته اللامية فأصبحت شوارع منفوحة تسجل باسمه، ولأهل منفوحة نصيب من مجد الأسماء والهوية معا.
ثم هناك أجمل القصائد المغناة التي تتصل بالأسماء وعلاقتها بالهوية المركبة، الدينية والجغرافية، حيث تكمن قوته في بيت الشعر التالي «أضاعوني وأي فتي أضاعوا/ ليوم كريهة وسداد ثغر»، لهذا البيت سيرة تبدأ من الولادة من واد في محافظة الطائف، مرورا بالهوية الأموية لقائلها، وصولا إلى قصة الإمام الأعظم أبوحنيفة مع جاره السكير.
القصيدة هي للشاعر عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي، الملقب بالعرجي نسبة لوادي العرج في محافظة الطائف اليوم. ويحكى أن عبد الله بن عمرو كان له طموح في نيل ولاية مكة في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، وحين أسند الخليفة هشام الولاية لخاله محمد بن هشام المخزومي وجد عبد الله بن عمرو في الشعر وسيلته للتعبير عن استيائه، فصب جام بلاغته في قصيدة يتغزل فيها بأم الوالي الذي فاز بالمنصب بدلا عنه، وحين علم الوالي الجديد بالأمر قبض على الشاعر وزجه في السجن لأكثر من تسع سنوات، عندها ومن خلف القضبان صنع العرجي بيت الشعر الذي حمل قوة ناعمة خرجت بعد حين.
فقد تحول هذا البيت الشعري إلى هوية فقهية/دينية على مسمع من الإمام الأعظم أبوحنيفة. كان للإمام في الكوفة جار يتغنى بهذا البيت بعد أن يسكر، وقد أعجب الإمام بصوت جاره مستمعا له كل ليلة، إلا أنه في إحدى الليالي افتقد صوت جاره، ليكتشف أن العسس (الشرطة) قد حبسوه. سعى الإمام للإفراج عنه، وحين خرج جاره سأله أبوحنيفة «هل أضعناك؟»، أجاب الجار شاكرا مساعدته في الخروج من حبسه، فدعاه الإمام إلى مواصلة الغناء!
وإذا ما واصلنا البحث في الشعر المشكل للهوية، فأين نحن من هذا البيت الذي يصف هوية العرب من خلال لباسها، ألم يقل الشاعر سحيم بن وثيم اليربوعي التميمي «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا/ متى أضع العمامة تعرفوني».
لقد استشهد الحجاج بن يوسف الثقفي بهذا البيت عند خطبته الشهيرة حين ولاه الكوفة عبد الملك بن مروان، ذلك لما للبيت من قوة ناعمة تشعها هوية لابس العمامة، هي العمامة العربية ذاتها التي أضحت هوية عابرة للقارات اليوم.
الكلام في العلاقة بين الهوية وقوتها الصلبة إشكالية نقدية مزمنة، تطرح الأسئلة أكثر من تقديم الأجوبة لها، وكأنها صراع بين الواقع والخيال، أو أنها أقرب إلى كباش بين لغة الحياة وفلسفة الكون. لماذا تظل الهوية مرتبطة بأقصى درجات الذات محافظة على حيوية طاغية مع الآخر؟ وكيف لأحرف أن تصنع القتل علما أن الهوية هي تعبير عن تفاعل الإنسان مع الآخر؟ وبالمقابل لماذا تتجه بعض الثقافات إلى التعبير عن ذاتها بأسلوب فني إيقاعي؟
لم يكن معلوف الأول الذي تناول مسألة الهوية وعلاقتها مع الآخر، فقد تناول النقاد والباحثون والفلاسفة هذه العلاقة كل من زاويته، والمثير أن أجوبتهم جاءت مختلفة، أو لنقل كل على حسب منسوبه الهوياتي/الثقافي.
إلى اليوم تصنع الهويات مذاهب ومدارس فكرية متنوعة، والعقل العربي في هذا الشأن له نصيب كبير في صياغة الإشكالية، وتغذية روح المشاغبة بشقيها الناعم والصلب، لنصل إلى أن الهوية تكون قوة ناعمة عند احتضان التعددية، وصلبة عند تحديها.