فرحان الذعذاع

«بابا شرايك نعمل مقلب»

الاحد - 15 نوفمبر 2020

Sun - 15 Nov 2020

شأس فرحان ذو الأربع سنوات جاء مسرعا والابتسامة بادية على محياه اللطيف، وبكل ثقة قال لي (بابا شرايك نسوي مقلب ب أوس)، قلت له: وش تبينا نسوي، قال: نحط مويه على الأرض ونصوت لأوس ونقول له تعال بسرعة ويجي ويزلق. بكل براءة وبكل صدق جاء هذا الطفل الصغير يطلب من أبيه أن يعمل هذا المقلب بأخيه الأكبر منه بعد أن شاهد هذا المقلب في مقطع على اليوتيوب! وعندما بدأت أدقق في ما يشاهده الأبناء اكتشفت الخطر المحدق بهم مما نظنه سلامة وعافية وتنشئة صالحة!

حرصنا خلال حياتنا الممتدة أن نؤمِّن لأولادنا أجواء صالحة حتى ينشؤوا نشأة صالحة، إبراء لذمة المسؤول، لقول النبي صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، ولكننا اكتشفنا بعد مدة ليست بالقصيرة في حياة النشء أن العناوين الصالحة ليست دائما تفاصيلها ونتائجها صالحة! لحرمة بعض الأفلام وما تحويه غالبا من مخالفات شرعية وأخلاقية، وما تصنعه من قدوات منحرفة في الغالب، دفعناهم باتجاه اليوتيوب واختيار المناسب مما يُشاهد! مثل يوميات عائلة محافظة تسكن بلاد الغرب أو ما شابهها من مقاطع متوفرة على اليوتيوب إما على شكل سنابات مجمعة أو قنوات يوتيوبية، وكان التركيز والمتابعة على ما ينشر في هذه القنوات، خاصة المشاهد المخالفة للدين والمخلة بالآداب أو الألفاظ أو المواضيع التي تتجاوز الخطوط الحمراء لطفل مسلم وعربي.

لكن لم يدر بخلدنا أن هذه المقاطع المحافظة شكلا تصنع ما هو أسوأ من ذلك مضمونا ونتائج، بل تجعل الأرض خصبة لاستقبال كل ما نخشاه ونحذره مستقبلا!

هذا الطفل البريء عندما ينشأ في مراحل التكوين الأولى التي يكتسب فيها المهارات ويتعلم الأشياء، ويبدأ يتابع لساعات طويلة مقاطع أسرة محترمة محتشمة، لكنها مضطرة لأن تسجل لساعات طويلة في اليوم الواحد مشاهد لتحميلها على اليوتيوب بهدف الكسب المادي، وتكون مضطرة لأن تحشوا أوقات التسجيل بكل شيء حتى التفاهات، التي يكون لها النصيب الأكبر من الوقت! حينها من الخطأ أن نتساءل لماذا تكون الجدية صعبة لدى أبناء هذا الجيل، ولماذا نجد لديهم جرأة في المغامرة والخطر من خلال تجربة أي شيء حتى لو كان الثمن عدم العودة؟

في المقابل: مسلسل يقوم عليه العشرات وربما المئات من المتخصصين بالإخراج والتمثيل وكتابة السيناريو والتصوير، ومع ذلك يقضون أشهرا طويلة حتى يقدموا حلقة لمدة نصف ساعة في مسلسل من ثلاثين حلقة، وربما تكون الحلقة الثلاثون حشوا لإكمال العدد، وتكون عبارة عما خلف الكواليس وهي المواقف المضحكة والمفاجئة في هذا المسلسل الذي امتد تسجيل حلقاته أشهرا عديدة، وربما بعض المشاهد أعيد تسجيلها مرات ومرات بسبب لفظة أو زاوية تصوير غير مناسبة! ولو جمعنا مدة هذا المسلسل على مدى شهر كامل لوجدناها لم تتجاوز 15 ساعة، استغرق تسجليها وكتابة سيناريوهاتها أشهرا عديدة، بل وبعد هذا كله تعرض على لجان متخصصة لفسحها وإبداء الملاحظات التي تحتاج إلى التعديل!

لكن هذا اليوتيوبي في يوم واحد يبث 15 ساعة من يومياته ويوميات أسرته، من خلال مواقف مصطنعة لاستمرار قناته بحصد المشاهدات لجني الأموال، ولديه الجرأة والقدرة على أن يبث مباشرة للمشاهدين ساعات وساعات دون انقطاع!

أبعد هذا نأتي ونتساءل: لماذا تنتشر التفاهة؟ ولماذا تنتزع الجدية من هذا الجيل انتزاعا؟!

رجل مسن تجاوز السبعين يقوم بحركات سخيفة لا تناسب سنه، والهدف صنع مقطع مضحك للانتشار؟

رجال ذوو وزن وقيمة تتضح من هيئاتهم، يصنعون سيناريو متفقا عليه سلفا، ويسجله لهم ثالث على أنه موقف غريب أو مضحك أو صادم! هذه العينات من المسنين التافهين لا يمارسون هواياتهم، إنما يهيئون وضعا صعبا لمن سيحلون محلهم يوما ما بعد رحيل هذا الجيل (الميديوي)، اعتدنا أن الشيب وقار، وأن هذه السن هي سن الحكمة والموعظة الحسنة، وما تفعله هذه العينات سيغرس في جيل اليوم نظرة قد لا تناسب من سيأتي من خلفهم؟

ألم يسمع ذوو الرؤوس البيضاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له».

هذا النشر اللا منضبط يحتاج إلى تقنين يحد من خطره على أجيال المستقبل، فالفساد ليس نشر الرذيلة فحسب، وإنما تهيئة أرض خصبة وتافهة تستقبل هذه الرذيلة وقبلها التفاهة! والله من وراء القصد.

_shaas_@