محمد العطية

هل حان الوقت لتأسيس هيئة للاستشارات والتنظيم؟

السبت - 14 نوفمبر 2020

Sat - 14 Nov 2020

بين حين وآخر تتعاقد كثير من الجهات العامة مع المكاتب والشركات الاستشارية الرائدة (Consultants Contracting) لتقديم استشاراتها في مجالات استشارية متعددة: الاستراتيجي، الاقتصادي، المحاسبي، المالي، الإداري، التنظيمي، البيئي، الإعلامي، الصحي، القانوني، الهندسي، تقييم الأصول، الاستثمار، دراسات الجدوى، وغيرها، وذلك لغرض إيجاد حلول مبتكرة لكل العوائق والمشاكل التي تواجهها، وقد لوحظ أخيرا ازدياد معدلات الاستشارات الاستراتيجية التنظيمية التي تهدف إلى رسم الخطط الاستراتيجية، التي تتضمن تحليل بيئة العمل وصياغة الرؤية والرسالة والمهام والأهداف ومؤشرات قياس الأداء وإعادة التنظيم وتصميم الهيكل التنظيمي، وغير ذلك.

إن الأصل في الاستشارة أن المستشار مؤتمن فيما استُشير فيه، لذلك فإن أي عمل استشاري يحمل في طياته كثيرا من الطموحات والتوقعات الإيجابية التي تبشر بمستقبل أفضل للجهة المستفيدة (Stakeholders)، وكما هو متوقع بعد انتهاء فترة العقد الاستشاري الذي أنفقت عليه ميزانية ضخمة تبدأ التساؤلات: هل تحقق التغيير المأمول؟ ما هي القيمة المضافة التي أضافها الاستشاري؟ وقد يقول قائل إن دور الاستشاري انتهى بتسليم وثائق الدراسة الاستشارية، أو بانتهاء فترة التعاقد مع العناصر الاستشارية، ولكن هل هذا هو الغرض من التعاقد مع الاستشاري؟

إن أحد أهم مخرجات الدراسة الاستشارية (Deliverables) هي خطة التنفيذ المتضمنة الجدول الزمني لكل مرحلة من مراحل التنفيذ، ولكن عدم تنفيذ هذه الدراسة وبقاءها حبيسة الأدراج دلالة على أنها غير واقعية، وبالتالي غير قابلة للتطبيق، أو عند تطبيقها حسب الخطة التنفيذية اتضح أن النتائج لم تحقق المأمول، وفي هذا دلالة على ضعف في مخرجات العمل الاستشاري أو عدم كفاءة في الإدارة المعنية بالإشراف والتخطيط، وفي كل الحالات هنالك خلل وخسارة مالية وزمنية ترتبت على ذلك، ولو تم حصر الدراسات الاستشارية التي تمت في العقد الماضي وحجم المبالغ المالية الضخمة التي صرفت عليها ومقارنة ذلك بالفوائد المتحققة على أرض الواقع، سنجد أن هنالك هدرا كبيرا في الاستثمار وعدم توطين لهذه المهنة، رغم أن معظم التعاقدات تمت وتكررت مع شركات عالمية كبرى مثل: ماكينزي وشركائه (Mckinsey & Company) ، مجموعة بوسطن الاستشارية (Boston Consulting Group: BCG)، بوز ألن هاملتون (Booz Allen Hamilton)، برايس ووتر هاوس كوبرز (Price water house Coopers)، ارنست ويونغ (Ernst & Young)، كي بي إم جي (KPMG)، بكتل العالمية (Bechtel Group, Inc)، ديليوت (Deloitte).

الواقع

في الواقع لقد استحوذ عدد محدود من الشركات العالمية على السوق، وفتحت بعض الشركات والمكاتب فروعا محلية لها ترتبط بفروعها الإقليمية، وتدار من خلالها أو بالتعاون مع شريك محلي كواجهة، وهذا لم يضف قيمة لتوطين هذه المهنة، ولم يعزز المحتوى المحلي، وربما نحتاج للتفكير في كيفية تلافي المخاطر المترتبة على احتكار قطاع الاستشارات، وفي الوقت نفسه لا نستطيع أن نلقي باللائمة على هذه الشركات، في ظل غياب الأسس التنظيمية لمهنة العمل الاستشاري.

لا شك أن هناك استشارات متميزة قدمتها بعض المكاتب والشركات الاستشارية وفق منهجيات علمية، ولكن في الطرف الآخر هناك استشارات أخرى ضعيفة جدا، لأن بعض الاستشاريين الأجانب يستندون في معلوماتهم وتحليلهم للبيانات على حضورهم لعدد من الاجتماعات، وعلى ما يتم تزويدهم به من بيانات ومعلومات وتقارير من الجهة المستفيدة، ويعيدون إنتاج هذه المعلومات إلى الجهة نفسها بشكل أو بآخر، وفي الغالب تستعين الشركات الأجنبية بجنسيات عربية مقيمة في الخارج كوسيط مع البيئة المحلية، قد لا يكون على قدر من الكفاءة المطلوبة، ولأن المطبخ الاستشاري بأكمله يتم عن بعد ومن خارج المملكة تزداد مخاطر فشل هذه الاستشارات، لأنه على قدر المدخلات تكون المخرجات، خاصة عندما يكون هناك ضعف في عناصر الجهة المستفيدة المكلفة بالإشراف على العمل الاستشاري.

ولمعرفة حجم الفراغ الإداري والتنظيمي والإشرافي ومدى الأثر المترتب على ذلك لمهنة الاستشارات والتنظيم على مستوى المملكة، أطرح

التساؤلات التالية:

- ما هي الجهة المعنية بمواءمة مخرجات الدراسات الاستشارية والخطط الاستراتيجية للجهات العامة مع رؤية المملكة (2030)؟

• ما هي الجهة المعنية بمنح التصاريح للمكاتب والشركات الاستشارية، ومراقبة هذا النشاط، سواء للقطاع العام أو القطاع الخاص؟

• ما هي الجهة المعنية بتصنيف المكاتب والشركات التي تقدم الاستشارات؟

• ما هي الجهة المعنية بإعداد الدليل الموحد الاسترشادي للتعاقدات الاستشارية والتنظيمية؟ وهل هنالك عقد إطاري للتعاقدات الاستشارية؟

• ما هي الجهة المعنية بالإشراف على إعادة الهيكلة والتنظيم الإداري للجهات العامة لرفع كفاءته وفعاليته وترشيد الإنفاق العام والاستثمار الأمثل للموارد وتحسين وتطوير أداء الجهات العامة؟

• هل هنالك دليل موحد لعملية تصميم وتطوير الهياكل التنظيمية للجهات العامة؟

• من يعتمد الهياكل التنظيمية للجهات العامة ويتأكد من عدم التداخل والتعارض بينها ومن وضوح المسؤوليات والصلاحيات، والتحقق من مواءمتها مع الأطر القانونية والتنظيمية والمالية؟

• ما هي الجهة المعنية بالتنظيم والإشراف والمراقبة على مكاتب ومراكز الاستشارات التي تُنشئها الجامعات والمعاهد والمراكز؟

• ما هي الجهة المعنية بتقييم مستوى أداء المكاتب الاستشارية وقياس مدى كفاءتها في إدارة عملية تنفيذ مشاريع التشييد الهندسية وإدارة مكاتب المشاريع (PMO)؟

• ما مسوغات طلب الاستعانة بالشركة الاستشارية؟

• ما الجهة المعنية بتوحيد أسس ومعايير تأهيل واختيار الشركات الاستشارية؟

• ما هي ضوابط الحصول على لقب مستشار؟ وما الجهة التي تمنح ذلك؟

• ما هي أسس ومعايير إعداد كراسة شروط ومتطلبات العقد الاستشاري (RFP)؟

• ما هي قدرات وخبرات اللجان المعنية بتحليل العروض الاستشارية واختيار الاستشاري؟

• ما هي معايير اختيار عناصر وكوادر الاستشاري؟ وهل هي أعلى مما لدى الجهة المستفيدة؟ هل لدى الجهة المستفيدة القدرات البشرية المؤهلة لإدارة العمل الاستشاري؟

• ما هي الجهة المعنية بمراجعة طلبات التعاقدات الاستشارية واعتماد نتائج العمل الاستشاري؟

• ما هو دور المستشارين والإدارة الاستشارية في الجهة المستفيدة وعلاقتهما بالعقد الاستشاري؟ وهل تم توظيف خبراتهم في هذه العقود؟

• هل يتم تبادل الخبرات الاستشارية البينية بين الجهات الحكومية، سواء بالإعارة أو الاستعارة؟

• كيف تتم المحافظة على عدم تكرار أو ازدواجية الدراسات الاستشارية في الجهات الحكومية؟

• هل تم توطين الفكر الاستشاري من خلال العقود الاستشارية لتعزيز المحتوى المحلي؟

• هل مخرجات الدراسات الاستشارية هي حقوق ملكية لجميع الجهات العامة أم للجهة صاحبة التعاقد فحسب، لكي يمكن أن تستفيد منها الجهات الأخرى بدلا من تكرارها؟

• هل تم تعظيم الفائدة والقيمة المضافة من التعاقدات السابقة مع الشركات الاستشارية؟

• كيف تضبط قوة وسيطرة الشركات الاستشارية العالمية ودرجة تعاونها وقناعتها بالشركات الاستشارية المحلية؟

• هل جرى تدريب المواطنين المؤهلين في العقود الاستشارية ونقل الخبرات لهم لتعزيز المحتوى المحلي؟

• هل مخرجات العمل الاستشاري ملائمة مع بيئة وطبيعة عمل الجهة المستفيدة أم هي عبارة عن دراسات نظريه أو حلول غير قابلة للتطبيق؟

• هل هنالك تدخل للتأثير على مخرجات العمل الاستشاري لكي يوافق هوى الجهة المستفيدة؟

- هل هناك تداخل وازدواجية بين الجهات العامة ذات العلاقة بمهنة الاستشارات المختلفة والجمعيات المهنية المتخصصة؟

• هل هناك تقييم للمكاتب والشركات الاستشارية (بطريقة معيارية)، بعد انتهاء عقودهم من قبل الجهة المستفيدة، ومشاركة هذه المعلومة مع الجهات الأخرى، لكي تحرص على تجويد مخرجاتها والمحافظة على سمعتها للحصول على تعاقدات مستقبلية؟

• ما هي الجهة المعنية بالتأكد من مدى تطبيق الجهات العامة للدراسات الاستشارية ومعالجة المعوقات التي تحول دون تنفيذها؟

• كيف تتم المحافظة على سرية معلومات الدراسات الاستشارية ذات درجة التصنيف السري؟

• هل لدينا بنك معلومات مرجعي بقوائم الخبراء والمستشارين السعوديين في مختلف التخصصات (خزانات Think- Tanks) ) وللخطط الاستراتيجية والأعمال الاستشارية والهياكل التنظيمية للجهات العامة، لحفظ وحماية الوثائق والدراسات، للاستفادة منها مستقبلا من خلال الإدارة الذكية لهذه البيانات من خلال منصة الكترونية؟

• ما الجهة المعنية بوضع ميثاق مهني للعمل الاستشاري وضبط السلوكيات والأخلاقيات في العملية الاستشارية (Code of Conduct)؟

التنظيم ضرورة

إن الحاجة إلى الأعمال الاستشارية في مختلف المجالات سوف تبقى، ولا يمكن الاستغناء عنها، ونعلم أن الفكر الاستشاري ليس حكرا على شركة أو جنسية أو بلد معين، ولكن حجم التساؤلات السابقة التي لن نجد لها إجابة شافية تؤكد مدى الحاجة إلى تنظيم بيئة الاستشارات، وأن الاستمرار في الأسلوب الحالي للتعاقدات الاستشارية غير مجدٍ، مهما كانت السمعة العالمية للشركة الاستشارية المتعاقد معها، ومهما استعرضت بعض الجهات أو الهيئات من جهود سابقة لها في هذا المجال، وفي ظل عدم وجود جهة مرجعية لحوكمة قطاع الاستشارات، فإن الاستفادة من الدراسات الاستشارية المتميزة ستبقى محدودة، والدراسات الاستشارية الضعيفة ستبقى هي المهيمنة على السوق.

ما الحل؟

ولمواكبة الرؤية الطموحة للمملكة (2030)، ولترشيد الإنفاق وتحقيق الكفاءة الاقتصادية والاستغلال الأمثل للموارد، وتعظيم المحتوى المحلي حيث سجل قطاع الاستشارات نموا كبيرا، فقد حان وقت التغيير وإعادة بناء بيئة الاستشارات بطريقة احترافية، بما في ذلك تنظيم نموذج الإدارات الاستشارية داخل الجهات الحكومية وعلاقتها بالأعمال الاستشارية التعاقدية، والاستفادة من النخب الفكرية والعلمية الوطنية التي تأهلت في أرقى المؤسسات العلمية وخدمت بلادها في مواقع عديدة، وأثبتت قدرتها على المنافسة والتفوق، وهي الآن تتطلع إلى أن تضع حصيلة العلم والتجربة والخبرة في خدمة بلادها، من خلال تمكينها في الأعمال الاستشارية.

كم يجب الاستفادة من تجاربنا السابقة (مع اختلاف النموذج)، فلدى المملكة تجربة ناجحة في التنظيم والإشراف والمراقبة على بيئة الاتصالات وتقنية المعلومات من خلال تأسيس هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات، ويمكن بناء ذراع استشاري حكومي احترافي يركز على حلول الأعمال الاستشارية المتكررة والمشتركة بين الجهات العامة، بل نطمح إلى بناء شركة استشارات سعودية كبرى منافسة عابرة للحدود، أساسها محلي ورؤيتها عالمية، تغطي مجالات الاستشارات الاستراتيجية والإدارية والاقتصادية والتنموية، من خلال استثمار جرئ لصندوق الاستثمارات العامة (PIF)، وتكون قاطرة لصناعة الاستشارات في المملكة.

هيئة للاستشارات والتنظيم

لذا أقترح تأسيس جهة مرجعية (لا مركزية) تكون مظلة للأعمال الاستشارية والتنظيمية تحت اسم «هيئة الاستشارات والتنظيم»، تكون مهمتها الأساسية سن التشريعات والقوانين والأنظمة والإشراف والمراقبة، وتكون نفسها جهة استشارية عليا للتنظيم الإداري بوصفها بيت خبرة وطنيا، ويعود سبب اقتراح ضم الاستشارات مع التنظيم لأن كليهما يُحدث التغيير، ولأن معظم الدراسات الاستشارية الاستراتيجية تنتج عنها إعادة هيكلة وتنظيم إداري، وكذلك اقتراح إجراء تعديل أو تطوير في الهيكلة والتنظيم يحتاج في الغالب إلى دراسة استشارية تبرهن ذلك، ويمكن التركيز على الاستشارات الاستراتيجية والإدارية والتنظيمية والاقتصادية والتنموية في المرحلة الأولى، والانتهاء إلى تغطية كل مجالات قطاع الاستشارات في المراحل اللاحقة للقطاعين العام والخاص، لكي يكون هنالك جهة مرجعية إدارية واحدة لجميع الأعمال الاستشارية، تليق بمكانة المملكة المتقدمة ضمن دول العشرين (G20).

إن الأدوار الرئيسة للهيئة المقترحة تكمن في الإجابة عن جميع التساؤلات السابقة، ولعل أهمها: التحقق من أن الدراسات والأعمال الاستشارية تُبنى على الحقائق، وكذلك تقييم المعرفة التي ستقدمها المكاتب والشركات الاستشارية، ومدى قدرتها للتكيف والنمو والتطور والتغيير المستمر مع الزمن لاستشراف المستقبل.

خلاصة القول:

إن تأسيس هيئة مستقلة للاستشارات والتنظيم يهدف إلى إرساء المعايير الموحدة والأسس اللازمة للأعمال الاستشارية والتنظيمية في المملكة، لتطبيق أفضل الممارسات العالمية في هذا القطاع.

mattiah8@