محمد أحمد بابا

لست متأكدا

الاثنين - 09 نوفمبر 2020

Mon - 09 Nov 2020

تثيرني هذه الكلمة كثيرا لأعرف ما وراءها عندما أستمع لترجمة حديث أحد المفكرين أو المحللين بلغة لاتينية، ويكثر هذا المصطلح لدى الذين يهتمون بالدراسات في أي مجال من المجالات الاجتماعية، ورغم أن هذه الإثارة التي يحدثها في ذهني تصور الحالة التي يبدو فيها من درس وبحث وحلل وناقش توحي إلي بكثير من الحنق المعرفي لأشد شعرا غير موجود برأسي، رغبة في حقيقة صارمة، إلا أنني أشعر بكثير من التقدير لمن لا يعلم وقال «لا أدري».

علماء الحقائق الشرعية الذين اعتمدوا بصفة كبيرة على أسس المنطق والفلسفة، غاصوا عميقا في تعريف القطعي من المعلومات والظني منها، ولكنهم خرجوا بأن القطعي هو الورود أو الوصول، خاصة فيما يتعلق بنصوص القرآن الكريم، وبدا أغلبهم يميل إلى أن الدلالة مهما كانت قوتها فهي ظنية بسبب تغيرها زيادة أو نقصا مع الزمن، ولو كانت من القطعيات لما تغيرت حتى في ذهن المتلقي.

والموضوعية التي أفنى المفكرون أعمارهم في تبنيها وهم يكتبون أو يتكلمون لن تكتمل صورتها الزاهية إلا إذا توجت باعتراف الإنسان أنه بذل جهده في المسألة، ولكن القطع بالنتائج غير ممكن على سبيل الاطراد، وبذلك لا يغلق باب البناء على مجهودات السابقين، ولا يعيب علماء زمان البدء من حيث انتهى الآخرون، ولا يضر نقض القديم بعد تفكيكه وتشريحه وبيان علله، ولا يقدح في المعمر تغيير وجهة نظره.

يسوق الغرب دوما في تصريحاتهم ونقاشاتهم وأحاديثهم لطريقة يتقنونها جدا ويلتزمون بها كافة، بحيث لا يخلو كتاب ولا محاضرة ولا مؤتمر صحفي لأحدهم من كلمات تدل على الشك في المضمون وتترك للرأي الآخر مجالا أن يكون حاضرا، وتفتح للسائلين مناخا صحيا أن يشتركوا مع الضيف في الأخذ والرد والتفكير.

ومرامي هذا النهج واضحة إنسانيا، لأنها تحترم العقل والفكر والرأي ومقصودة علميا وفلسفيا، لأنها تجعل من المتردد في حديثه آلة فعالة لجذب مقترحات جديدة والخروج من صندوق أسر الرأي الأوحد إلى رحابة الاحتماليات وسعة صدر الإمكانات، وقديما قال علماء التشريع الإسلامي «لا مشاحة في الاصطلاح»، إشارة إلى أن تسمية الأشياء الحادثة بأسماء تدل عليها نابع من تصور الواضعين غير ملزم لفهم السامعين.

عندما سئل أحد الأطباء الألمان عن اكتشافه جينا جديدا، قال «هناك دلائل واضحة على أن الجينات المعروفة ليست هي الوحيدة التي يمكن التعامل معها»، وعندما سئل طبيب شرق أوسطي عن عملية جراحية قام بها بتخدير موضعي قال «تأكدت بما لا يدع مجالا للشك أن هذه الطريقة هي الوحيدة في العالم التي تضمن نسبة نجاح عالية»، ولك أن تستمتع بسهولة التقاط الفروق الكبيرة بين التصريحين.

عندما يعزو المثقف رأيه لدلائل معينة ويسرد هذه الأدلة ويربط بينها وبين النتائج، فهو بذلك يستحق «النيشان» العامي «عداه العيب»، ولكن في الوقت الذي يشك العالم بأسره في تقارير منظمة العفو الدولية ويتردد كثير من السياسيين في تصديق معلومات «السي آي إيه»، ويراجع المفكرون نظريات «أرسطو وأفلاطون وأنشتاين ودارون» وغيرهم، تخطئة وتدقيقا، يجزم طالب في الصف الأول الإعدادي في عالمنا العربي الكبير بأن الأرض كروية والسحاب من بخار الماء.

لم نتعلم صغارا بأن الشك يقود لليقين، وأن التردد بين حالتين مدعاة لمزيد من الترجيح المبني على دليل، ولم يفك معلمونا اللحام عن صفائح عقولنا لنستوعب غير رأي واحد ومسار واحد لنصل - حسب زعمهم - لنتيجة واحدة، ولم يتلق أغلبنا تعليما مريحا يسمح له بأن يصبح غير متأكد من المعلومة أو غير واثق من النتيجة، بناء على ضعف الأدلة أو عدم وضوح المراحل، بل أجبرنا على خيارين فقط «أبيض أو أسود».

لو أن تنشئتنا كانت تترك في آخر كل سطر سطرا لنا، وتبحث لنا في آخر كل تربية عن عذر أننا قد نأتي بالجديد، وترسم لنا صورة الإنسان بأنه قد يعلم ما لا يعلمه أبوه؛ لسهل على مجتمعنا تقبل التغيير الكبير في الاتجاهات كلها: الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإنما الذي حصل بأن استئصال ورم سرطاني تمكن من القلب لا يمكن أن يكون إلا باستئصال القلب، ليموت ذلك الإنسان ويحيا غيره.

وفي لغتنا العربية ألفاظ وتراكيب كثيرة نستطيع من خلالها أن لا نحكم الفصل في القول في كل شيء حتى، لكأن «القول ما قالت حذام»، والمنهج منج فرعون «ما أريكم إلا ما أرى»، وفي منهج العرب الأولين كثير من التواضع للرأي والانقياد لأن الأصل في أقوالهم أن هذا هو خبر اليوم، وقد يكون في الغد غيره أو أقل منه أو أكبر منه، وفي البشرية جمعاء أمثلة كثيرة يستطيع من يتعصب لرأيه أن يشاهدها ليخفف عن نفسه وطأة المخالفين وإنكار المناهضين.

لم يتأكد الباحثون من نجاعة أي عقار وقائي من مرض وبائي دون آثار جانبية أو سلبيات متوقعة، ومع ذلك استخدموه ومضوا في أبحاثهم التطويرية والتحسينية قدما، ولم يتأكد صانعوا الطائرات من سلامة الاستحداثات في الطائرات الجديدة بنسبة 100%، ومع ذلك ركبوا الخطر وجربوا طائراتهم واستبقوا الزمن في الإتيان بكل ما هو جديد والتخلي عن كل ما هو قديم بان خلله.

أما نحن، فإننا متأكدون من كل مشروع جديد ونؤمن بنجاحه قبل انطلاقه، بل وبعبقريته وهو ما يزال جنينا في جوف من أتى به، ولم تشهد صحفنا ولا وسائل إعلامنا تصريحا أو تلميحا بأن برنامجا لم ينجح أو كان به أخطاء أو أنه غير مناسب، والذي يحدث هو «الصمت الرهيب» حتى ينسى الناس وتذوب جبال الجليد.

عندما تبنى قادة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن وهم يسيرون العالم - شئنا أم أبينا - فلسفة «لست متأكدا»، جعلهم ذلك يبحثون عن ضالتهم، وهي «التأكد» في كل شيء وفي كل مكان وفي كل وقت، بل وفي فكر وعقل كل إنسان، فاستخدَموا هذا السلاح في الخير واخترعوا وبنوا ونجحوا، واستخدموه في الشر فأظهروا للعالم هذا الغول الذي يسمى «الإرهاب»، وقتلوا واحتلوا وطغوا وبغوا، لأن كل متحدث رسمي أو غير رسمي لهم سيقول «لست متأكدا» بأنكم غير إرهابيين.

albabamohamad@