مرزوق بن تنباك

ما بين إصلاح الذات وجلدها

الثلاثاء - 27 أكتوبر 2020

Tue - 27 Oct 2020

من العبارات العائمة التي تدور على ألسنة الناس عندما يسمعون من ينتقد حالا أو مقالا يخص الماضي أو يحاول تقويم الحاضر عبارة جلد الذات، وهي عبارة تسللت إلى معجمنا الحديث وانتشرت بين الناس من يعرف معناها ومدلولها ومن يلقيها على عواهنها، وترددت كثيرا في أدبياتنا المعاصرة، أحيانا تكون في مكانها المناسب لها وفي وضعها من السياق الذي يستدعيها دون تكلف، وفي أحيان أخرى تأتي شاردة من السياق بعيدة عن المضمون المطروق للحديث وللمناقشة، وتأتي في أغلب استعمالاتها دفاعا عن الماضي أو غيرة عليه من أمر قد لا يستدعي الغيرة ولا الدفاع، وإنما لصد الهجوم ورده.

والدفاع عن الذات أيا كانت سواء ذات الجماعة أو ذات الأمة أو حتى ذات الفرد العادي مشروع، والمراجعة للماضي والنظر فيما خلف وتفتيشه وتقويم اعوجاجه وما قد يكون اعتراه مع مرور الأيام من نقص أو خطأ مطلب مهم لإصلاحه وتنقيته مما علق به وتجديده، ليكون صالحا وقويا ومقبولا، وليس ذلك جلدا للذات كما يقول القائلون، لكنه إصلاح لما أفسده الدهر وغيرته الأيام واحتاج إلى المراجعة أو التجديد أو حتى التجاوز والترك.

ولعل الحال الذي تعيشه الأمة العربية إن لم تكن الأمة الإسلامية كلها يحتاج إلى إعمال النظر والبحث عما يمكن أن يكون من سبل الإصلاح لما وصلنا إليه من تأخر بعيد عن تقدم العالم وإبداعه في شؤون الحياة المعاصرة، والمراجعة واجبة على كل حال وهي ليست جلدا للذات كما يحلو للراضين بواقعهم ترديدها.

الإصلاح مطلب على كل حال وفي كل الظروف وتقويم الحاضر بكل أبعاده يستدعي إعادة النظر والتفكير بالأسباب التي آلت بالعرب إلى مأزق تاريخي خطير، لا يختلف اثنان على خطورة ما وصلوا إليه وحاجتهم إلى إعادة النظر في بعض قناعاتهم وسياساتهم. وحاضر العالم العربي حاضر مأساوي في كل المقاييس ولا يجادل عاقل على غير ذلك.

والأولى أن نلتفت إلى تراثنا الفكري والثقافي العريض الذي تتابعت عليه الأجيال والسنون، وأضافت إليه الكثير من متطلباتها واجتهد أهل كل عصر لما هم فيه من حاجة للاجتهاد في الفقه والاقتصاد وأمر السياسة والدين وشؤون الحياة، كل ذلك يحتاج إلى مراجعة وتدقيق لما يمكن أن نأخذ منه وما يمكن أن ندع، وما يصلح للحاضر وما هو من نصيب التاريخ الذي نقدسه ونحترمه ونعده تاريخا عظيما، لكنه مضى وانتهى ولا يمكن توظيفه والاعتماد عليه والدفاع عنه اليوم، التنوع والتراكم الكمي الذي خلفته القرون الماضية ذلك كله تاريخ مضى وانتهى، ونحن بحاجة إلى صناعة حاضرنا وتقدير حاجاتنا وما يصلح لنا اليوم وما نحتاجه، وما يصلح لنا هو غير ما صنعه الأجداد في الأمس.

ولا يمكن أن نتكئ على ما خلفته تلك القرون الغابرة من تراث، لكننا بحاجة إلى أن نعمل ما يقتضيه التغيير والتحديث وما نحتاجه لمستقبلنا، ونقد التراث وتمييز ما هو صالح للحاضر وما لا يصلح له لا يعد ذلك جلدا للذات ولا جفاء لماضي التاريخ، إنما هو من ضرورات التجديد ومواكبة التحولات التي يمر بها العالم شرقه وغربه والعرب غير مستثنين منه.

ما يجب علينا هو إصلاح ما نرى استصحابه من ماضينا الثقافي والفكري والتاريخي، بعد تمحيصه وتخليصه مما علق به من شوائب الزمن، كما يجب إعمال العقل لإصلاحه وتحديثه ليلبي حاجاتنا المعاصرة، ومن المؤكد أن النظر في معوقات تقدمنا وتفنيدها وتعيين الخطأ فيها ليست جلدا للذات، جلد الذات أن نكرر الماضي ونقبله على علاته، وأن تتحجر مواقفنا وقراراتنا مع الماضي ومع التاريخ.

Mtenback@