عبدالله محمد الشهراني

الأربعون

الأربعاء - 02 سبتمبر 2020

Wed - 02 Sep 2020

قبل عشر سنوات وبينما أنا منهمك في أمر ما، كانت ابنتي آمنة الشهيرة بـ «أمونة» - الاسم الذي خطفته من جدتها - ملتصقة بظهري تداعب النباتات في الصحراء، ويومها وقعت على اكتشافها (العظيم) في رأسي: «بابا بابا في شعرتين بيضاء في رأسك». كان ردي عليها: إن مساحة الصحراء تفوق مساحة الأرض المزروعة في رأسي، وربما كانت الإضاءة المنعكسة على صحرائي الشاسعة هي التي أظهرت لك السراب الذي توهمته شعرا أبيض.

لكنها أصرت على حقيقة ما رأت، وطلبت مني أن أستعين بالمرآة حتى أتأكد بنفسي، وكانت المفاجأة - والحقيقة - أنها «بداية الشيب»! لا أنسى شعوري ذلك اليوم وأنا أحدق في المرآة متفحصا الشعرتين. عاد بي ذلك البياض المفاجئ إلى ما قبل المرحلة الابتدائية، إلى سنوات اللامسؤولية وانعدام الالتزامات، إلى سنوات نسمع في صباحها مع أبي رحمه الله «ازرع واحرث أرض بلادك، بكره تجني الخير لأولادك»، وفي المساء نشارك أمي ـ حفظها الله ـ الدموع ونحن نشاهد «أصابع الزمن».

لقد كانت هاتان الشعرتان البيضاوان مؤشرا ونذيرا ليوم سوف تقول لي فيه ابنتي أمونة: «بابا بابا في شعرتين سوداء في رأسك».

وها أنا وقد بلغت الأربعين من العمر، العمر الذي أظهر لي لونا جديدا لم أكن أعرفه، لونا يُرى عند اختلاط الشعر الأبيض بالشعر الأسود، لونا لا يعرفه إلا من بلغ الأربعين، لونا يعلمنا أن الدنيا ليست فقط أبيض وأسود، لقد ظهر اللون الرمادي، اللون الذي يتقبل رسمية الأسود وقسوته وفخامته وعتمته، الرمادي - سن الأربعين - الذي يتقبل الأبيض بلينه وبرودة أعصابه وصخب لمعته.

في الأربعين الوقت يشترى، وإذا توافر لا يصرف إلا فيما يستحق. عند هذه السن تقل المعارك وربما تختفي، فصاحب الشعر الرمادي أصبح أستاذا في «التطنيش والتغافل» (مكبّر فشّته على الآخر).

من وصل إلى الأربعين تجده أكثر وفاء مع كل شيء من حوله، مع الوطن ومع أصحاب الفضل. صاحب الشعر الرمادي تجده ملتصقا بعائلته - الأم والزوجة والأولاد والأخوات - كل شيء يأتي بعدهم.

عند الأربعين تنطبق الآية الكريمة: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً»، خلقنا ضعفاء، وبعد البلوغ ظهرت القوة إلى أن بلغت ذروتها في الأربعين، حيث الوصول إلى أعلى نقطة في الرسم البياني (لازم أدخل شيء هندسي في الموضوع)، ثم يبدأ النزول من تلك النقطة - على شكل منحنى- إلى الأسفل، وهذه سنة الحياة.

«حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

@ALSHAHRANI_1400