موسم التكاذب السعودي
الخميس - 07 يوليو 2016
Thu - 07 Jul 2016
من طرائف الفنون في الأدب العربي فن (تكاذب الأعراب)، وهو أن يجتمع أعرابيان أو أكثر ويسمرون بحديث كله كذب، وهم يعرفون أنه كذب، ومن ذلك ما أورده المبرد في كتابه (الكامل) أن أعرابيين اجتمعنا فتكاذبا، فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس لي في أول الصباح، فلاحت لي من بعيد ظلمة شديدة فيممتها حتى وصلت إليها، فإذا هي قطعة من الليل ما زالت نائمة، فما زلت أحمل عليها بفرسي، وأضربها بسيفي حتى أنبهتها من النوم فهربت. فقال الآخر: خرجت إلى الصيد، فوجدت ظبيا فرميته بسهمي فعدل الظبي يمنة، فعدل السهم خلفه، فتياسر الظبي فتياسر السهم خلفه ثم علا الظبي ربوة فعلا السهم خلفه، ثم انحدر الظبي فانحدر السهم خلفه حتى أصابه في نحره. ويبدو أن هذا الفن الطريف ما زال مستمرا لدينا، ففي أوساط الكتاب الصحفيين وثلة من المسؤولين ثمة تكاذب يحدث سنويا، فقبيل إجازة صيف كل سنة اعتاد ثلة من الكتاب والمسؤولين على الحديث عن السياحة الداخلية وأهميتها، فيدبج الكاتب مقالة طويلة عن مناطق المملكة التي تضاهي في جمال الطبيعة مثيلاتها في الخارج، ويستحث المواطنين على قضاء الإجازة الصيفية فيها، مذكرا أن الوطن أولى بصرف المال فيه من الخارج، وينعى على من يقضون إجازاتهم خارج الوطن. وبمثل ذلك يتحدث ثلة من المسؤولين، وهؤلاء الكتاب والمسؤولون ممن اعتاد قضاء إجازة الصيف خارج المملكة، وقد يكون كتب مقالته وهو في رحلة خارج المملكة، فحديثهم وكتابتهم تمثل نوعا من التكاذب، فهم يتعمدون قول ما لا يفعلون، والقارئ لمقالاتهم، والسامع لحديثهم يدرك أنهم يكذبون، وهم يعرفون أن المواطن القارئ والسامع لهم يعرف أنهم يكذبون، فالجميع مشترك بهذا التكاذب الموسمي، وكتابة أولئك الكتاب وحديث أولئك المسؤولين جزء من إشكالية المثالية المصطنعة التي دائما ما يحاول بعضنا الظهور بها أمام بعض، فلدينا خطاب أخلاقي وعظي مكثف جدا يرسم صورة أخلاقية مثالية لما ينبغي أن يكون عليه المسلم، وبما أن الطبيعة البشرية مجبولة على النقص والضعف فهي لا تستطيع الالتزام بمتطلبات ذلك الخطاب، ولهذا فالحل ممارسة الازدواجية، فالمهم أن تكون الصورة الظاهرة للناس تتسم بمثالية فائقة، ولا يهم بعد ذلك أن يكون واقع الشخص خلاف ذلك، وهذا ما يفسر ظاهرة تضخم الوعظ الأخلاقي في مجموعات (الواتس اب) بكم هائل من النصائح والخطب الدينية التي يبعثها من لم يطبق شيئا مما فيها، ويتلقفها المنضمون للمجموعة ثم يرسلونها بدورهم إلى مجموعات أخرى، وأكثرهم لم يقرأها فضلا عن أن يطبق ما فيها، فهي في نظر الكثيرين فرصة لإظهار الإنسان نفسه أمام المنضمين للمجموعة بأنه متدين ورع حريص على الأخلاق، ومحارب للشرور والفساد، ومحب للنظام، وملتزم بالمواعيد، وعطوف على الضعفاء، وقد يكون ضد هذا كله.
ومن النماذج التي تمارس مثل هذه الازدواجية المشتغلون في حقل دورات تنمية المهارات، فهم يطرحون مئات الدورات في كيفية التعامل الراقي مع الزوجة والأبناء والجيران وزملاء العمل، وكثير منهم في شقاق وخلافات مع كل هؤلاء.
وأحسب أن أكثر ضحايا إشكالية المثالية التي نعاني منها هم فئة الشباب الصغار الذين يتشربون تلك الخطابات الوعظية المكثفة التي لا تميز بين كليات الدين وجزئياته فتطالب المسلم بتكاليف لا يطيقها كل أحد، فيجد الشاب نفسه لا يطيقها مثل أكثر الناس فتراه مذبذبا يأخذ نفسه بتطبيق كل ما تأمر به تلك المواعظ، ثم لا تطيق نفسه الاستمرار عليها فيتركها ثم ينغمس في كل رذيلة ثم يشعر بالذنب فيقبل على تطهير روحه من دنس ما لحق بها فيتشدد في الدين حتى يخرج عن القصد، وربما كانت ظاهرة الانتحار في العمليات الإرهابية هي محاولات تطهير يمارسها أولئك الشباب لغسل ما لحقهم من دنس، ففي لحظة ندم وانكسار يستمع لتلك الخطابات الأخلاقية التي تطالب المسلم أن يكون في نقاء الملائكة في كل جزئيات الدين، ويستعظم ما عمل من خطايا، وعندها يكون ثمرة جاهزة تقطفها منظمات العنف التي توحي له زخرف القول غرورا، وتعده وتمنيه بأن ما بينه وبين الجنة إلا أن يقدم على عملية استشهادية في أعداء الله، وأن ذلك أعظم توبة تصدر من المؤمن الراجع إلى ربه.
[email protected]
ومن النماذج التي تمارس مثل هذه الازدواجية المشتغلون في حقل دورات تنمية المهارات، فهم يطرحون مئات الدورات في كيفية التعامل الراقي مع الزوجة والأبناء والجيران وزملاء العمل، وكثير منهم في شقاق وخلافات مع كل هؤلاء.
وأحسب أن أكثر ضحايا إشكالية المثالية التي نعاني منها هم فئة الشباب الصغار الذين يتشربون تلك الخطابات الوعظية المكثفة التي لا تميز بين كليات الدين وجزئياته فتطالب المسلم بتكاليف لا يطيقها كل أحد، فيجد الشاب نفسه لا يطيقها مثل أكثر الناس فتراه مذبذبا يأخذ نفسه بتطبيق كل ما تأمر به تلك المواعظ، ثم لا تطيق نفسه الاستمرار عليها فيتركها ثم ينغمس في كل رذيلة ثم يشعر بالذنب فيقبل على تطهير روحه من دنس ما لحق بها فيتشدد في الدين حتى يخرج عن القصد، وربما كانت ظاهرة الانتحار في العمليات الإرهابية هي محاولات تطهير يمارسها أولئك الشباب لغسل ما لحقهم من دنس، ففي لحظة ندم وانكسار يستمع لتلك الخطابات الأخلاقية التي تطالب المسلم أن يكون في نقاء الملائكة في كل جزئيات الدين، ويستعظم ما عمل من خطايا، وعندها يكون ثمرة جاهزة تقطفها منظمات العنف التي توحي له زخرف القول غرورا، وتعده وتمنيه بأن ما بينه وبين الجنة إلا أن يقدم على عملية استشهادية في أعداء الله، وأن ذلك أعظم توبة تصدر من المؤمن الراجع إلى ربه.
[email protected]