الوعي السياسي الغرائزي
الخميس - 07 يوليو 2016
Thu - 07 Jul 2016
يقول علي عزت بيجوفيتش: «الإنسان في طبيعته فرد لا سبيل إلى إفراده من فرديته، فهو يأنف الحياة في قطيع وغير قادر على ذلك، لكن يوجد نوع من الناس هم أقل إنسانية من غيرهم، يتقبلون الوظيفة والنظام والتماثل وسيادة الدولة فوق الأفراد، ولأنه يوجد من الناس أكثر فاعلية، فإنهم يتمكنون من فرض آرائهم على الآخرين الذين هم أقل فاعلية. وقد كان العساكر دائما أكثر فاعلية من الشعراء. هذه الحقيقة المأساوية تكشف لنا عن القوة والضعف في كل ما هو إنساني وغير إنساني». طبعا لو وجدنا كلام هذا المفكر بيجوفيتش مكتوبا هكذا لوحده لقلنا إن علي عزت بيجوفيتش «أناريكا»! لكن جاء هذا الكلام في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب في سياق حديثه عن الاشتراكية وما أفرزته من نظم شمولية صادرت هوية الفرد وآماله وتطلعاته. هذا المقطع الجميل لمفكرنا العظيم رحمه الله يصلح لأن يكون ديباجة دستور الإنسان الفرد، فوظيفة الدولة ليست أن تجعل الأفراد متشابهين، فهذا مأزق وقعت فيه الأنظمة الشمولية والتسلطية. فمن أجل أن يكون الأفراد ملتزمين بالقانون يجب أن يكونوا متشابهين؛ يعتنقون نفس الفكر ويلبسون نفس الزي ولهم مشروبهم الوطني وموسيقاهم الوطنية.. فأنفقت الأنظمة موارد ووقتا وجهدا في سبيل الدعاية واحتكار الرأي العام وإبراز نخب ثقافية وفنية وفرضها على المجتمعات. هذا العبط السياسي أدى مثلا في الاتحاد السوفييتي وفي أوروبا الشرقية وفي الجمهوريات العربية إلى انفصال الدولة عن المجتمع. أصبح للدولة نخبة سياسية ونخب ثقافية ونخب فنية ورسامون وكلاسيكيون ونحاتون وراقصات فضلا عن قضاة وعساكر ومخبرين، جميعهم يعملون ضد النصف الآخر من المجتمع، ويحاولون إلغاء الفردية وطحن الأفكار الفردية وقسر الجميع في قالب واحد من أجل الالتزام بقانون غير عادل. لكن كما رأى الجميع، فشلت كل محاولات النظم الشمولية والتسلطية في قسر الأفراد وإجبارهم على نوع واحد من التفكير. فالفرد ليس كائنا متمردا أو صعب الانقياد كما يصور البروباجانديون؛ بل لأنه ببساطة حساس لمسألة الضحك عليه أو استغلاله أو التلاعب بغاياته وتطلعاته. فهو ببساطة يمتثل للسلطة عندما يكون هناك شيء من الثقة كما ذكر الفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل في كتابه القيّم (الفرد والسلطة): «لا يصعب انقياد الأفراد لأوامر الحكومة إذا اعتقدوا بقدرة الحكومة على خدمتهم وبحسن نواياها». لكن الجدل كله يحدث عندما تفقد الثقة بين السلطة والفرد، فهنا ينفجر الوعي السياسي الطبيعي القادم من غريزة الإنسان. عندما تتجاوز السلطة وظيفتها الأساسية المتمثلة في محاربة الجريمة والجهل والمرض والفقر إلى التوغل في أفكار الأفراد وميولهم وآرائهم وتقديم الحقائق بصورة مضللة، تفقد الثقة بين الطرفين وتهيمن حالة ترصد على علاقة الفرد بالسلطة ويصبح المجتمع مجموعة من العرافين والكهنة والمنجمين للتنبؤ بحيل وألاعيب السلطة، بينما تصبح السلطة مجموعة سحرة ومشعوذين تحاول جاهدة تضليل الفرد وتمرير الحيل عليه.
[email protected]
[email protected]