عبدالحليم البراك

قصة واحدة وعدة رواة!

الاثنين - 10 أغسطس 2020

Mon - 10 Aug 2020

دائما القصة واحدة لكن هناك عدة رواة لنفس القصة، وكل رواية تختلف عن الأخرى. تختلف لكنها ليست بالضرورة تضادها. كل راوٍ يركز على ما يراه. وكل راوٍ يرى ما لم يره الآخر.

وقد تتضاد الروايات لاختلاف الأهواء لدرجة أنك تحضر نفس القصة لكن وكأن ما حدث لم تره، وما لم تره ليس لأن هناك اختلاقا بالضرورة، فقد يحدث اختلاق وكذب، لكن قد يدخل الراوي رأيه كجزء من الحدث، وحتى لا يستطيل التنظير، سيرى جيلان من السعوديين حادثة واحدة لكن الرواة مختلفون أحيانا، أو متفقون حولها أحيانا أخرى.

في حرب الخليج الثانية، وتحديدا في غزو الكويت ستسمع أكثر من رواية لحدث واحد، فمن عاصر الحديث يفهم تعدد الروايات المبني على وجهة نظر المتحدث، أو التعدد المبني على عقل المتحدث، أو التعدد المبني على تخصص المتحدث، فالطائفيون يرون الحدث طائفيا بالدرجة الأولى وتصفية حسابات طائفية أو ما نتج عنه من تحولات طائفية، مهملين الأسباب التي أدت للغزو، أو أن عقل المتحدث كان سياسيا فكان ينظر للسياسة أكثر، أو أنه صراع اقتصادي، بينما آخر ينظر للتحولات الفكرية والتمدد المزعوم لأحزاب بادت!

آخرون يرون أشياء أخرى لم نرها، ويهملون ما لا يحبون ويتجاهلون ما لا يريدون إبرازه، هذا للجيل الذي عاصر تلك الحقبة، بينما الجيل الذي لم يعاصر اكتفى بالسماع والقراءة والبحث، فإنه برغم أنه أسير الروايات المنقولة له، والتي هي عرضة للتغيرات المذكورة أعلاه، فإنه هو يختار ما يريد منها وما يتناسب معه، ويتجاهل غيرها، فمن يبحث عن بطل قومي سيجد بطلا قوميا شجاعا، ومن يريد أن يرى أنه مدمر للوحدة العربية وجالب للحرب والشقاق سيرى في نفس الرجل هذا الشيء.

كما أن مذهب اللاأدرية والتوقفية والصمت يبرز ويضيع في صمت الاختلافات بين هذا وذاك، ففي المجلس الواحد ترى من يثني على هذا، وترى من يسب نفس الشخص، حتى تضيع ملامح الحقيقة بين أفواه الرواة، وتمضي بنا الأيام وكلنا خوف أن يزوّر الرواة بمذاهبهم وأهوائهم وعقولهم وتوجهاتهم الحقيقة، فإما أن نقرأ كثيرا لنميز أن ما نؤمن أنه ليس للحقيقة وجه واحد نلتزم به ونقول إنه هو الأنسب.

ويقول برتراند راسل في مجمل وصفه للفلسفة المعاصرة: إنه لا يمكن الحكم عليها لأنها لم تنضج بعد، أو أنها لم تتعرض للنقد الكافي الذي يمحصها، أو أن معالجتها من الداخل (بحكم معاصرتك لها تبدو صعبة)، أو أن بعض الأفكار النيّرة يتأخر الاحتفاء بها لفترة طويلة لكنها تبرز بعد مدة. وما ينطبق على الفلسفة ينطبق على الأحداث، وعلى الرواة.

أخيرا: لا تنصت لراوٍ واحد، فالروايات متعددة، ولا تنصت لحقيقة واحدة، فالحقيقة هي الأخرى قد تتعدد، ولا ترتبط برأي؛ فتتعصب له بأكثر مما ينبغي، فتكتشف بعد أن ينضج عقلك أن هناك رأيا أفضل منه، فتندم، فدع الروايات تنمو حتى تنضج، ودع الحياة تمضي فلا شيء يستحق الحماس!

Halemalbaarrak@