محمد أحمد بابا

قهوة دبلوماسية

الاثنين - 03 أغسطس 2020

Mon - 03 Aug 2020

قال لي أبي: إنه في زيارته للجماهيرية الليبية في ثمانينيات القرن الهجري المنصرم مكث هناك زمنا افتقد فيه القهوة العربية المرة التي اعتاد شربها في السعودية في موقع عمله وفي منزله وفي زياراته لزملائه وإخوانه، حيث كانت تلك عادة ضيافية في كافة أرجاء الحجاز ونجد وشتى بقاع المملكة.

يقول أبي: استطعت نسيان الأمر وقتا وأنا هناك لأن ما لا يمكن الحصول عليه لا يفيد فيه التأسف ولا الحزن ولا الانتظار، ولكني في مرة وأنا أسير في أحد شوارع طرابلس عاصمة ليبيا يشاء العلي القدير أن أمر بجانب مقر السفارة السعودية هناك، وما إن رأيت علم بلادي حتى شاقني الحنين لوطني - وبشكل غير طبيعي - استطاع أنفي أن يشم رائحة البن والهيل مما يؤكد وجود قهوة عربية متقنة الصنع فاخرة المستحضرات في الداخل، فكيف السبيل لأنال منها بطريقة دبلوماسية في مقر بعثة دبلوماسية.

وبدون تفكير أو تردد دخلت إلى مبنى السفارة وبثقة منقطعة النظير طلبت بأدب واحترام مقابلة السفير، لأنني أعرف بأن ما يصنع لرأس القوم من مشروبات لا يمكن أن يكون إلا من أجود الأنواع وأكثرها عناية وتركيزا، وجلست في مقاعد الانتظار بعد أن عرفت باسمي وسلمت جوازي للسكرتير ليستأذن السفير في مقابلتي، وساعدني على هذه الجرأة أنني لا ألبس خارج بلدي سوى الزي التقليدي السعودي ولو لاحقتني الأنظار أينما حللت.

وبعد انتظار لم يدم طويلا قابلت رجلا من أحسن الناس ترحيبا بالضيوف ومن أوفر الناس حظا في ملاطفة الزوار وتبادلت معه حديثا مختصرا أجبت فيه على تساؤل حيره ماذا أتى بسعودي إلى ليبيا؟ حيث لم تعتد السفارة تواجدهم في هذا البلد مقتصرة أعمالها على خدمات الحج والعمرة ومتابعة العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين العربيين الشقيقين، وكنت قد أحسست لأول وهلة في نفس السفير شك في شخصيتي ولباسي وهيئتي.

في هذه الأثناء كان غالب تركيزي مع تلك الفناجين رائعة التصميم زاهية المحتوى وأنا أحتسي منها قهوة عربية لم أذق في حياتي مثلها دون أن أمل من تتابع صب «المقهوي» لي منها متمنيا أن لا يمل هو من لهفي على هذا المستحضر المستحكم من العقول والأمزجة، مستعيرا بعض انتباهي لمتابعة الحديث مع مضيفي.

ولما رويت من القهوة بعض الشيء فاجأت السفير بقولي له: إن سبب ولوجي للسفارة وطلبي السلام عليه ومقابلته هو أن أحظى برشفات من قهوة عربية خالطت مشاعري وحنيني لوطني ولا مكان أفضل من هذا المكان أجد فيه مرامي ومطلبي، فضحك السفير كثيرا وابتسم في ود وسعادة، وأمر «الساقي» أن يظل في مرابطة يصب الفنجان تلو الآخر لي حتى ولو اكتفيت.

قال السفير لي: بأن هذه الحادثة من أغرب ما مر عليه هنا ولكنها بددت بلطافتها ملل العمل وسآمة الروتين، وأصر على دعوتي لمنزله ولكني اعتذرت بسفري العاجل وبذلت جهدا مضنيا حتى يقبل عذري فقد امتلأ وجهي حياء من كرم ضيافة هذا الرجل وتقبله لموقفي الذي لم أخطط له ولا لتنفيذه، وخرجت من مبنى السفارة مودعا حتى بابها وأنا أحمد ربي أن ساق لي قهوة دبلوماسية من غير عناء.

فاعلم يا بني: أن الناس خارج أوطانهم أحباب وإخوان ومتحابون أكثر منهم داخل الوطن، وما ذلك إلا لندرتهم هنا كمقارنة بما هو موجود في البلد الأصل، واعلم بأن في الناس جميعا ميلا للحب والكرم وملاطفة الآخرين دون تكلف أو اصطناع، ويبدو لي يا بني بأن اختيار السفراء والدبلوماسيين للعمل خارج الوطن له معيار خاص لا يغفل أسلوب التعامل مع المواطنين ورعايا البلد، واعلم بأن ما يأسرك دوما ولا تستطيع الاستغناء عنه يسعك تركه إن أجبرتك الظروف بدون تعب.

albabamohamad@