شاهر النهاري

إذا كان المنتج مجانيا فاعرف أنك البضاعة!

الاثنين - 03 أغسطس 2020

Mon - 03 Aug 2020

كانت مجتمعات السنوات القريبة الماضية تتحدث عن أعين النرجس المستحية، وآذان الأرانب المدسوسة تراقب خطوات الجميع، وكان للمجتمعات نظريات تدور همسا في ليالي سمرهم، وتحكي عن وقائع وتخيلات ومؤامرات، بيقين أن الرصد مستمر، وأن للجدران آذانا، وأن الدبابيس، تشك رؤوسها في مواطن الألم، لتزيد من ضيق الأنفاس، وتمنع الألسن عن التمادي، فالكلمة التي (تودي في داهية)، لا بد من ابتلاعها، أو تلطيف وجودها، وقلب بعض حروفها، وتمريرها بمزحة ولمزة، وخائنة الأعين.

ذلك زمن كان وولى، وأصبح البشر متصالحين مع الرصد المكشوف، من مختلف الراصدين، بل إننا وبأموالنا نشتري وسائل التجسس على مجريات ودقائق حياتنا، وفضح جميع أسرارنا، وهذا كلام ابني نهار، والذي كان يحاورني عن التكنولوجيا والبرمجة الحديثة وما فعلته بالناس، والمجتمعات، والحكومات، ومستويات الصدق، والخصوصية، ويحدد: إذا كان المنتج مجانيا، فاعرف أنك أنت البضاعة!

كلنا ومن خلال هواتفنا الشخصية، وما فيها من تقنية وبرامج مرصودون، مكشوفون، وهنالك من يتابعنا، بل ويسبق خطواتنا، بألف ميل، وتفاصيل.

مجرد أن تكتب رسالة في هاتفك على أحد البرامج لصديق أو قريب تذكر فيه كلمة (جوع)، يتم إمطار هاتفك بدعايات الأكل، والمطاعم، والتوصيل السريع، والوجبات الشعبية والسريعة، والحلويات، والمشروبات المهضمة!

تتكلم مع صديق عن مقطع شاهدته، فتجد المقاطع المشابهة تنهال عليك!

تحكي عن ألم الضرس، فتجد دعايات معاجين أسنان، ومراكز طبية وأسعار الخلع.

تذكر اسم أي دولة فتنهال عليك عروض الطيران والفنادق والسياحة، ومرات كثيرة تخزي الشيطان، وتقول ربما إنها صدفة، والصدفة لم يعد لها مكان في عالمنا المتصل، بطريقة تجعلك منكشفا مفضوحا لجهات كل همها أن تكون أنت وما في جيبك لقمة رزق يحرصون على التهامها والتكسب منها، حسب مقدرتهم على معرفة دقائق حياتك وشهواتك ومزاجك وما تحتاجه من أجهزة وسيارات وترفيه وعقار وطنافس.

كل شركة تعرف دقائق معلوماتك، وتبيع تحديثاتها على الشركات المماثلة لها، لأنك بضاعة مربحة للجميع (ما عدا أنت).

وأثناء جائحة كورونا دار الكلام عن ضرورة إيجاد لقاح عالمي، والكارثة أنهم يهمسون عن إمكانية احتوائه على شريحة الكترونية ذكية (بحجم النانو)، تزرع في جسد كل من يتقدم لأخذ اللقاح، فيقتربون منه أكثر، ومن قلبه، وعقله، ومشاعره، وغرائزه، وحتى لو لم يحمل هاتفا يمدهم بالمعلومات، فالشريحة الخبيثة تتولى الإبلاغ سريعا عن مكانه وأمنياته ونواياه، جوعه، غضبه، حاجته لسيجارة، عشقه، جنوحه للجنون والفنون وتعاطفه مع الإرهاب!

أمور يرصدونها من شيفرة خلاياك تستمر معك، حتى يوم رحيلك، فيحددون مكان قبرك لأقرب شبر، وتقديم الخدمات المتنوعة لمن سيزورك لقراءة الفاتحة.

ما يحدث للبشر مرعب، فلا قدرة لأحد على الهروب والاختلاء بالنفس في عالم لا إنسانية فيه، ولا خصوصية ولا براءة، ولا تمرير أي فكرة أو زلة دون اكتشافها والمحاسبة عليها.

نعم لقد أصبحنا البضاعة، والتاجر الشاطر، يتفرج على شريحة معلومات تخوننا وتطاردنا، وتحضر لنا أمنياتنا ولو بالتقسيط المريح.

وحتى الحكومات العالمية أنت بضاعتها الطازجة، وهي تراقب أفكارك ونواياك وكل حب أو تمرد، أو شر، أو جنون تتبناه، وتعرف كيف وكم ستصرف من الجيب، وكم لديك من الشيب في الغيب!

@alnahariShaher