زيد الفضيل

الحج تعايش وإعلان براءة

السبت - 25 يوليو 2020

Sat - 25 Jul 2020

لا أعلم مشهدا دينيا يعلن فيه الناس البراءة من الشيطان ويظهرون سخطهم عليه كما هو الحال في منسك رجم الجمرات أثناء شعيرة الحج لدى المسلمين، الذي عده الفقهاء من الواجبات المهمة، ولا يكتفون برمي جمرة واحدة، وإنما يرمون الشيطان في ثلاثة مواقع وعلى مدى ثلاثة أيام متوالية. أليس في ذلك تأكيد لإعلان البراءة من الشيطان والحذر من فعله؟ خاصة أنه قد تحدى الله بقوله «لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين»، وكان جواب الله أن قال له «قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين».

هكذا هي الصورة واضحة في كتاب الله، والتحذير من خبث الشيطان كبير ومتعدد، وعلى الرغم من ذلك لا نلمس وعيا كافيا وإدراكا عميقا لبواطن خبث الشيطان ونطاق عمله المفضل، الكامن في إيقاع الخلاف بين الناس، وتفريق شملهم، وإثارة العداوة والبغضاء، وزرع الفتن فيما بينهم، بطمس كل ما يتفقون عليه، وإعلاء شأن ما يفترقون منه ويختلفون حوله. وهو ما يتراءى لنا واقعا معاشا.

في الحج يؤدي المؤمنون سنة وشيعة نسكا واحدة، يقفون على صعيد واحد، وفي ساعة واحدة، وينفرون في لحظة واحدة، ويرمون شيطانا واحدا. يكبرون ويهللون بلفظ واحد، ويصلون ويطوفون لكعبة واحدة ودون اختلاف وافتراق، ومع انتهاء الحج ورمي الشيطان الرجيم يعودون إلى افتراقهم، والانغماس في عدائهم، بتركيز نظرهم صوب المختلف الذي لا يمثل سوى نسبة ضئيلة في بنيتهم الفقهية والدينية، وصدق من قال: إن الشيطان يكمن في التفاصيل.

لقد حرص الشيطان منذ الوهلة الأولى على ترسيخ مفهوم الوصاية في ذهن هذا الإنسان، مقنعا إياه بأنه المالك لإرادة الحاكمية، وأن الحكم بالجنة والنار بيده، وعليه أن يتولى ويناصر أهل الجنة الموافقين له، ويتبرأ ويعادي أهل النار المخالفين له، واهما بأنه يرضي الله سبحانه، ولا يدرك بأنه قد وقع في حبائل شيطانه، ذلك الذي وسوس لأبينا آدم وزوجه منذ الابتداء، وأوهمهما كذبا بأنهما يملكان تقرير مصيرهما، وقاسمهما زورا وبهتانا بقوله «ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين، فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين».

من أجل ذلك جاءت الشريعة لتبين حدود وواجبات الإنسان ابتداء بالأنبياء والمرسلين الذين حدد الله منهجهم الرسالي عند حد البلاغ فحسب مصداقا لقوله «فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ»، وليس عليهم بعد ذلك أن يهتموا بالنتائج، فالمرجعية والحاكمية لله وحده لقوله «فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمصيطر، إلا من تولى وكفر، فيعذبه الله العذاب الأكبر، إن إلينا إيابهم، ثم إن علينا حسابهم».

لكن الشيطان لم يستكن ولم يتوقف فكان شغله الشاغل تغيير تلك المفاهيم في وعينا الديني، ونجح في ذلك أيما نجاح، حيث تعدى الإنسان وظيفة البلاغ المأمور بها دون تحمل أي تبعات، إلى وظيفة المحاسبة والجزاء الذي جعله الله لذاته العلية، وهو مكمن الزلل الذي دخل الشيطان من بابه ليفرق ويوغر الصدور بين أتباع الملة الواحدة، بل وبين أتباع الديانات السماوية قاطبة، من خلال تكبير المفترق وتصغير المتفق، فكان ما وصلنا إليه في واقعنا من تبديع وتفسيق وهجر وتكفير وصولا إلى القتل وإزهاق الأرواح البريئة.

أشير إلى أن المؤرخ والمحدث الحافظ أبا بكر أحمد الخطيب البغدادي قد ألف كتابا شهيرا في فنه وموضوعه وهو كتاب «المتفق والمفترق»، وحققه أستاذ الحديث الدكتور السيد محمد صادق الحامدي الحسيني وهو أحد العلماء الأفاضل الذين عرفتهم، ولامست وعيهم الناضج، وإدراكهم لحقيقة المتفق والمفترق في ثنايا موروثنا الديني، فعاش حتى لحظتنا هادئ النفس، متصالحا مع موروثه، مستوعبا حقيقة وظيفته التي حددها الله.

وإذا كان الكتاب الآنف متعلقا بجانب التعريف بمن اتفقت أسماؤهم واختلفت هوياتهم، أرجو أن يقوم «مجمع الفقه الإسلامي» بإصدار كتاب مماثل في الاسم والمضمون متعلق بموروثنا الفقهي والديني بوجه عام، وفي حينه سيتلاشى فعل الشيطان عن أهم مدخل لتفريق الناس وإيقاع العداوة والبغضاء بينهم باسم الله المقدس، فهل يمكن ذلك؟

zash113@