طارق فريد زيدان

«كلمتين ونص»

الخميس - 23 يوليو 2020

Thu - 23 Jul 2020

«قل كلمتك وامش». هذه العبارة اختارها الصحفي اللبناني كامل مروة عنوان زاويته اليومية في صحيفة «الحياة» اللبنانية العريقة التي تربعت لاحقا على عرش الصحافة اليومية المكتوبة في العالم العربي.

قال كامل مروة كلمته ومشى عن هذه الدنيا مقتولا بيد غادرة تكره الكلمة، وتحديدا المكتوبة. وبالرغم من أن جريدة الحياة وشقيقاتها «الدايلي ستار» (باللغة الإنجليزية) و«بيروت ماتان» (باللغة الفرنسية) استمرت من بعده على مدى عقود، إلا أنك إذا سألت أحدا عن كامل مروة سيجيبك بأنه هو من قال كلمته ومشى. هذا الرجل اختار عنوانا عبقريا اختزل سيرة صحيفة وصحفي، لا بل سيرة الصحافة العربية الورقية ككل.

يبدو أن جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق للرئيس الأمريكي دونالد ترمب تذكر مقولة كامل مروة ابن بلدة الزرارية في جنوب لبنان، حين قرر إصدار مذكراته الشخصية في كتاب يحمل كل عناصر الإثارة. وبولتون المنتمي إلى المحافظين الجدد والملقب بصقر الصقور في الإدارة الأمريكية دخل التاريخ من كتابه لا من خلال تجربته السياسية سفيرا لبلاده في الأمم المتحدة ومستشارا للرئيس الأكثر جدلا بين رؤساء الولايات المتحدة في العقود الأخيرة. دخل بولتون التاريخ على مذهب مروة. هو لم يكتف بقول كلمته فقط بل «كب العشا»، كما في المثل الخليجي الدارج.

ومن بولتون إلى الرئيس الإنجليزي ونستون تشرشل، صاحب النكتة السريعة والدبلوماسية النارية، الرجل الذي قاد بلده للنصر في الحرب العالمية الثانية، هو ذاته السياسي الذي أدار تهافت بلده من الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس إلى عضو في المحور الغربي الناشئ يومها. وقبل أن يمشي، قال كلمته الشهيرة من على منبر كلية ويستمنستر في ولاية ميزوري الأمريكية مستشرفا ما أسماه «الستار الحديدي» الذي بات يقسم العالم.

ما ميّز تشرشل أنه كان من قماشة السياسيين المثقفين، فقد قدم إلى المكتبة الإنجليزية مؤلفات ومجلدات حاز بعضها جائزة نوبل للآداب. هو من قال إن التاريخ سينصفه، ذلك أنه كان بين من ساهموا في كتابته، يحق لابن مالربورو أن يتعجرف وهو ينفث دخان سيجاره الإيطالي، ويحق لنا أن نعترف أن تعجرفه هو نتاج ثقافته لا سياسته أو رتبته أو لون بشرته أو طول قامته!

في المملكة العربية السعودية، يسجل للراحل الدكتور غازي القصيبي لقب الأديب على الرغم من عمله الطويل في الشأن العام. هنا يبدو كأن تشرشل قد همس في أذن القصيبي. فالوزير غازي ساهم في كتابة تاريخ الأديب غازي. وإذا سألتكم عن الوزارات التي تبوأها القصيبي وإنجازاته فيها من خلال مسيرته الحافلة، فهل من مجيب؟ لكن إذا سألتكم عن رواية «شقة الحرية» أو كتاب «حياة في الإدارة»، سيعرف القاصي والداني أنني أتكلم عن الأديب الوزير الدبلوماسي غازي القصيبي.

يحيلنا القصيبي إلى مذكرات نائب رئيس مجلس النواب اللبناني إيلي فرزلي الصادرة مؤخرا بعنوان «أجمل التاريخ كان غدا». من يعرف «دولة الرئيس» يدرك أنه أمام خطيب مفوه من الطراز الأول. يكفي أنه صاحب فكرة «القانون الأرثوذكسي» التي حرّكت الركود بين القوى السياسية اللبنانية قبل سنوات عديدة، وهو خارج رحاب السلطة. غير أن كلمته الشهيرة في مجلس النواب في جلسة استجواب حكومة الرئيس رفيق الحريري وفي عهد الوصاية السورية تبقى علامة فارقة، حين توجه إليه صادحا بحماسة «قلها يا دولة الرئيس، قلها»، مكررا الجملة مرات ومرات حتى غاص الرئيس الحريري في مقعده وقرر الاعتصام عن الكلام. ففي رقصة السياسة اللبنانية، اشتهر فرزلي «بكلمات ليست كالكلمات» على حد وصف الشاعر نزار قباني.

يأخذني الحديث عن الرقص السياسي إلى رقصة سياسية بلحن مصري شعبي. أتحدث عن أهمية الكلمة التي منها ذاع صيت الوزير عمرو موسى في العالم العربي. فقد تسنى لي قبل فترة أن أراجع مذكرات الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية في كتابه المعنون «كتابيه». وأول ما بدر إلى ذهني - والكتاب بين يدي - كيف طبع الفنان الشعبي المصري شعبان عبدالرحيم بصمته في صفحات التاريخ، بصوته وكلماته، لأجد نفسي مبتعدا رويدا رويدا عن سيرة «سعادة الأمين العام» باحثا عن قصة هذه الأغنية في المذكرات. وجدت نفسي أبحث عن المغني الذي قال كلمته ومشى. أكاد أجزم أن كل من يتذكر عمرو موسى الوزير سيتذكر أغنية شعبان عبدالرحيم المكوجي حين قال «بحب عمرو موسى وبكره إسرائيل».

لا سياق لهذه السردية إلا من باب التوكيد على أهمية الكلمة. فالعلاقة بين الكلمة والإنسان مثيرة ومشاكسة في آن واحد. ولطالما اختلطت الأدوار بينهما، عندها يصبح الشخص رهينة الكلمة حتى وإن كانت مسيرته المهنية حافلة. الكلمة هي الأداة التي تجعل للتاريخ صوتا. في دليل واضح أن الكلمة المكتوبة تظل حية، قد تمرض ولكن لا تموت. يبقى أن الكلام أنواع، أكرمه عند البشر أتقاه، فاتقوا الله في كلامكم قبل أن نمشي جميعا!